عمار بكار
عمار بكار
كاتب و أكاديمي متخصص في الإعلام الجديد

هل هناك قوة خفية تحرك الثورات حول العالم؟

آراء

في الأسابيع الماضية، كان مشهد الجموع المتظاهرة حول العالم مشهدا مشتركا في نشرات الأخبار، بين تركيا والبرازيل وتشيلي وتكساس الأميركية، بالإضافة إلى تظاهرة “تمرد” في مصر التي بدأت بالأمس. هذا المشهد بدأ يلفت أنظار العالم من جديد لميكانيكية الثورات، بحثا عن السر وراءها، والسبب لهذه الالتفاتة الجديدة أنه بينما كانت ثورات “الربيع العربي” تنتفض غضبا ضد الفقر والظروف المعيشية السيئة والأنظمة الحديدية، مما يقدم شرحا سهلا لأسبابها، فإن المظاهرات في تركيا والبرازيل وتشيلي تحصل في دول ناهضة اقتصاديا، وتتمتع بأنظمة ديموقراطية، وحكومات لا تنقصها الحيوية والاندفاع نحو تطوير المستوى المعيشي العام لبلادها وتلبية طلبات جماهيرها. حتى في مصر، بعيدا عن البحث عن التفاصيل الدقيقة للديناميكية السياسية والاجتماعية بين الحكم والمعارضة، فأنت تتحدث عن نظام حصل على شرعيته بانتخابات ديموقراطية، ويفترض أن هناك كمية هائلة من الأمل في الجمهور الخارج من النظام الذي ثار ضده، ويفترض أن يقلل هذا من غضب الشارع، ويخلق شيئا من الصبر والطاقة الإيجابية لديه، والأمر نفسه يقال عن ليبيا وتونس. ما الذي يحصل بالضبط؟ لماذا يثور الأتراك ضد حكومة تركيا التي صنعت ما يسمى عالميا بـ”المعجزة التركية” (والمقصود هنا نمو اقتصادي نادر من نوعه كما وكيفا)، والأمر نفسه ينطبق على البرازيل التي يتحدث عنها كواحد من أهم الأسواق العالمية الناشئة، وتشيلي التي تعيش أكثر عهودها ازدهارا منذ عقود طويلة؟

هناك ثلاث نظريات يلمح إليها المحللون العالميون في تناولهم لهذا السؤال. النظرية الأولى تتحدث عن المتهم المألوف في السنوات الثلاث الأخيرة، وهو الشبكات الاجتماعية، تويتر وفيسبوك وتطبيقات الاتصال عبر الموبايل (مثل واتسآب وبي بي إم). الشبكات الاجتماعية لها دور لا يمكن تجاهله. في البرازيل، صدرت دراسة تقول إن 81% من الذين شاركوا في المظاهرات عرفوا عنها عبر تويتر أو فيسبوك، وقرروا أن يشاركوا على أساسها، دون أن يكون هناك شخص يعرفونه شخصيا يحرضهم على المشاركة. في تركيا، هناك دلائل كثيرة تتحدث عنها الحكومة التركية عن استخدام مكثف لتويتر لتنظيم المظاهرات، وهي حاليا تتجاوز كل الحدود التي وصلت إليها الحكومات الديموقراطية الأخرى في السابق، مستغلة الحدث، لوضع ضغط على الشبكات الاجتماعية. تركيا أيضا تستفيد في حملتها هذه من فضيحة “بريزم” الأميركية التي تثبت أن الحكومة الأميركية تتجسس على الشبكات الاجتماعية لخدمة مصالحها الاستخباراتية، وإن كانت فضيحة بريزم لا تشمل تويتر ولا تشمل الاحتياجات الأمنية الداخلية في أميركا، حسب ما نعرفه حتى الآن.

ما تفعله الشبكات الاجتماعية خطير جدا، فهي تصنع كيانا هلاميا لا يعرف له أي هيكل يمكن للحكومات أن تتعامل معه. عبر عقود الزمن، تعتمد العقلية الأمنية في ردع الحشود على البحث عن القادة ومعاقبتهم أو حصارهم أو شراء ذممهم، ولكن في حالة الشبكات الاجتماعية، فإن القائد يختفي، ومن يبدأ المشوار يفقد هو السيطرة على الجموع، ويصبح معرضا لتنقلب عليه هذه الجموع نفسها دون أي رحمة. لهذا كله، هناك سعي عالمي إلى فهم ما يحصل في الشبكات الاجتماعية، وديناميكياتها، وكيف تتكون الظواهر، وكيف تنطفئ، وكيف يتم توجيهها. بمعنى أصح، هناك بحث حثيث عن تشكيل جديد للعقل الأمني، يستطيع التعامل مع هذا التغير الجديد في العالم. أنا شخصيا لا أستبعد أن جل اهتمام الاستخبارات الأميركية في التجسس على الشبكات الاجتماعية كان لتكوين هذا الفهم أكثر من كونه جمع معلومات عن شخصيات معينة وملاحقتها.

النظرية الثانية تتحدث عن المؤامرة الخارجية. في الفترات الأخيرة، ظهر دور واضح لمنظمات “معاداة المؤسسة” (Anti-Establishment Organizations) في تحفيز جموع المتحمسين حول العالم لإشعال هذه المظاهرات والثورات بما في ذلك في تركيا ومصر والبرازيل. أهم هذه المنظمات هي “أوتبور” Otpor! (ذات شعار القبضة الحديدية)، وهي منظمة صربية تكونت من خبرات الذين شاركوا في الثورة الصربية، ويستخدمون قصة نجاحها كنموذج تحفيزي. هذه المنظمة متهمة عبر كتب وأفلام وثائقية بعلاقات وثيقة بالاستخبارات الأميركية والإسرائيلية، وظهر دورها واضحا في تركيا وبدرجات أقل في مصر والبرازيل وتشيلي. هذا الدور هو الذي يدفع إردوغان وغيره لتوجيه أصابع اتهام غاضبة نحو المؤامرة الخارجية، وهو طبعا اتهام كان له دور كبير في المزيد من استفزاز الجموع التي ترى أنها مخلصة للوطن ولا علاقات خارجية لها. رئيس أوتبور قال يوما لمجموعة صغيرة من الثوار المصريين الذين دربهم في 2010 و2011 إن استفزاز رجل الأمن هو أفضل وسيلة لصنع ثورة ناجحة لأن هذا يعني أن يغضب ويضرب بهراوته، وبعدها يتم استغلال هذه الصور عبر الشبكات الاجتماعية في زيادة غضب الجماهير وتوسيع قاعدة الثورة. هذا ما يبدو أنه حصل في تركيا أيضا بشكل حرفي.

النظرية الثالثة، تحدث عنها صامويل هنتيجتون عام 1968م وأشار إليها الكاتب الفنزويلي الشهير مويسيس نايم، التي تقول إنه في المجتمعات التي تشهد انطلاقة تنموية، تكون سرعة الانطلاقة والنمو أقل من توقعات الجماهير التي ترتفع بسرعة من الحملات الدعائية التي تبثها الحكومات لهذه النهضات التنموية. الجماهير لا تعرف ماذا يعني بناء اقتصاد سريع النمو معتمد ذاتيا بعد عهود من الفشل والإفلاس كما هي حالة تركيا والبرازيل، ولا تعرف ما يعني أن تحكم دولة كانت تحت نفوذ قلة من المنتفعين الذين دمروها اقتصاديا تماما كما يحصل في مصر وليبيا وتونس، هي تنتظر من الرئيس المنتخب المعجزات، وعندما لا تحصل المعجزات يسهل غضبها. في رأيي الشخصي كل النظريات الثلاث صحيحة، كلها تعمل معا لخلق مشهد عالمي يبدو أنه سيزداد ولا ينقص، يتكرر في كل مكان، ولا يسلم منه أحد، وأنه سيغير منطق الإدارة الحكومية والسيطرة الأمنية حول العالم، كما تغيرت أشياء كثيرة بشكل جذري في السنوات العشر الأخيرة.

في الأسابيع القادمة سأتحدث بتفصيل أكثر عن النظريات الثلاث.

المصدر: الوطن أون لاين