اللاجئ الذي لا يستطيع أن يحمل وطنه على ظهره ليلة اللجوء، يأخذ بعضاً منه؛ ذكرى، حلماً، انتقاماً، تحدياً، حبّاً، لكنه لا يأخذ الوجع، فعند الوصول هناك الكثير منه بالانتظار.
كان إذا ما فرد الربيع عباءته على الأرض، يتقاطر أطفال الحي تباعاً إلى بيت ذلك الرجل العجوز، الطيني المتواضع، في ساحة الدار يشاهدون كل المعروض ، يشترون منه «فِخاخاً» لصيد العصافير، شباكاً بدائية للإيقاع بالحمام، وبعض الألعاب المصنّعة يدوياً من الخيطان وأسلاك الحديد.. كان العقل الباطن مشغولاً بالاحتلال فانصبّت هواياته الجديدة على تصنيع أدوات للمقاومة من دون أن يشعر، فلم تبرأ ذاكرته من نكبة الـ48.. على الرغم من أن الضحية الجديدة عصفور أو حمامة برية وليس محتلاً..
مهران علي، لاجئ كردي سوري، هرب من حلب إلى تركيا، لم يستطع أن يحمل وطنه على ظهره، فأخذ بعضا منه، حمل حلماً وصفائح وأسلاكاً.. ثم قفز إلى قارب اللجوء إلى اليونان، وعندما عرف رقم خيمته وإحداثياتها في مخيّم «ايدوميني»، أنزل كيس خبزه وغربته عن ظهره، ارتاح قليلاً، نظر إلى الشمس اليونانية التي لا تقطعها طائرة مقاتلة ولا يرسم دخان القذائف لها ذقنا أسود متصاعداً.. تبسم وبدأ يحلم.. بأصابعه بات يشكّل أسلاك النحاس الطرية، يربطها بشكل هندسي، لا يعتمد فيه على تصميم الورق، وإنما على ذاكرته المكتظة بالأشكال الهندسية، يصنع المقدّمة والهيكل، يدعمها ببعض الصفائح، ثم يزرع في مقدمتها محركاً كهربائياً يتحكم فيه عن بعد، مهران علي يصنع «سيارات التحكم عن بعد» بأدوات أولية بسيطة ليصنع الفرح في قلوب أبناء المخيم المغرّبين عن طفولتهم.. ياه كم يشبه الشاب مهران ذلك العجوز الذي سكن حيّنا، وصنع فرحنا ذات زمن مع سبق الإصرار والترصد.. وكأن الشباب والكهولة يتساويان تحت خيمة الـ«UN».
مهران علي يصنع الطائرات المروحية، والطائرات المقاتلة التي «تكف» عجلاتها فور تحليقها في السماء تمهيداً للقصف.. مازالت سماء ذاكرة مهران الكردي مكتظّة بالكائنات المعدنية التي اختصرت وطنه إلى خيمة، وكرمات العنب إلى أسلاك شائكة، والعصافير إلى هياكل من حديد وحنين.. مهران الكردي يحاول أن ينسى وطناً يتحكّم به عن بُعد، يحرّكه إلى الأمام شوقاً وإلى الخلف خوفاً.. ومع ذلك يحمد الله على نعمة الحياة.. فسياراته المصنوعة من يديه بأسلاك طرية ورقائق مسالمة لن تستحيل إلى سيارات مفخخة مهما قست أو توحّشت.
المصدر: الإمارات اليوم