العقل الجمعي وصناعة القرار: مراكز البحث في قلب السياسة والتنمية

آراء

خاص لـ هات بوست: 

     في المجتمعات التي تسعى إلى بناء مستقبلٍ متماسكٍ وقادرٍ على الاستجابة لتحدّيات العصر، لا تُصنع القرارات الكبرى في فراغ، ولا يمكن اختزالها في إرادةٍ سياسيّةٍ منفردةٍ أو ظرفٍ عابر. فالقرار العام، في جوهره، هو انعكاسٌ مباشر لطبيعة العقل الجمعيّ الذي ينتجه، ولمستوى النضج الفكريّ الذي يحكم العلاقة بين السياسة والمجتمع. وحين يغيب التفكير المنظّم، تتحوّل السياسة إلى إدارةٍ آنيةٍ للأزمات، وتغدو التنمية مجرّد شعاراتٍ لا تجد طريقها إلى الواقع. من هنا، يبرز سؤال العقل الجمعيّ بوصفه المدخل الأعمق لفهم كيف تُبنى السياسات، ولماذا تنجح بعض المجتمعات في تحويل الرؤية إلى إنجاز، بينما تتعثّر أخرى رغم الإرادة ووفرة الموارد. والعقل الجمعيّ ليس مجموع العقول الفرديّة، بل هو الإطار الثقافيّ والمعرفيّ الذي تتشكّل داخله تصوّرات المجتمع عن الدولة، والعدالة، والمصلحة العامّة، والمستقبل. وهو عقلٌ يتغذّى من الخطاب العام، ومن منظومة التعليم، ومن الإعلام، ومن إنتاج المعرفة، كما يتأثّر بدرجة الثقة بين المواطن والمؤسّسات. وفي هذا السياق، تصبح السياسة مرآةً لهذا العقل، إمّا أن تعبّر عن وعيٍ ناضجٍ قادرٍ على الموازنة بين الممكن والطموح، أو أن تعكس حالةً من الارتباك والتجاذب والانقسام.

     هنا تحديداً، تتجلّى الأهميّة المحوريّة لمراكز البحث والتفكير بوصفها الفاعل الوسيط بين المعرفة وصناعة القرار. فهذه المراكز لا تقتصر وظيفتها على إنتاج الدراسات والتقارير، بل تضطلع بدورٍ أعمق يتمثّل في تفكيك الواقع، وقراءة التحوّلات، وصياغة البدائل، وتقديم رؤى تستند إلى التحليل لا إلى الانطباع. ومن خلال هذا الدور، تُسهم مراكز البحث في ترشيد القرار السياسيّ، وتمنحه بعداً استراتيجيّاً يربط بين احتياجات المجتمع وأهداف التنمية المستدامة.

المحور الأوّل: العقل الجمعيّ بوصفه الإطار الناظم لصناعة القرار

     لا تُفهم صناعة القرار في أي مجتمعٍ بوصفها مسألةً إجرائيّةً محضة، ولا باعتبارها نتاجاً حصريّاً لمؤسّسات الدولة وأجهزتها، لأنّ القرار العام يتكوّن في عمقه داخل المجال الأوسع الذي يمكن تسميته بالعقل الجمعيّ. وهذا العقل ليس فكرةً مجرّدةً ولا شعاراً ثقافيّاً، بل بنيةٌ مركّبةٌ تتشكّل من تراكم الخبرات التاريخيّة، ومن منظومة القيم، ومن أنماط الإدراك السائدة، ومن طريقة فهم المجتمع لذاته وللدولة وللعالم. ومن ثمّ، فإنّ القرار السياسيّ لا يظهر فجأةً من رحم الإدارة، بل ينبت في تربة الوعي الجمعيّ، ويستمدّ شرعيّته الضمنيّة من مستوى نضج هذه التربة أو اضطرابها.

     العقل الجمعيّ، في هذا السياق، هو الإطار الناظم الذي يحدّد ما يُعدّ مقبولاً أو مرفوضاً، ممكناً أو مستحيلاً، عادلاً أو جائراً، داخل المجال العام. وهو الذي يرسم حدود المخيال السياسيّ للمجتمع، ويمنح السياسة لغتها، ويضع للمؤسّسات سقفاً توقعياً يضغط عليها أو يوجّهها. وعندما يكون العقل الجمعيّ مفعماً بالوعي، تُصبح السياسة أكثر ميلاً إلى التخطيط والاتّزان، لأنّ المجتمع نفسه يطالب بالمبرّر، ويُحاكم القرار وفق معيار المصلحة العامّة. أمّا حين يكون العقل الجمعيّ أسير الانفعال أو الاستقطاب، فإنّ القرار يُنتج في مناخٍ مضطربٍ، وتغدو السياسة أقرب إلى إدارة اليوم بيومه، والتكيّف مع الضغوط، بدل صياغة مساراتٍ تنمويّةٍ مستقرة.

     ومن أبرز مفاتيح فهم العقل الجمعيّ علاقته بالثقة. فالثقة ليست شعوراً نفسياً عابراً، بل رأس مالٍ اجتماعيّ يحدّد طبيعة العلاقة بين المواطن والمؤسّسات. حين تتجذّر الثقة، يصبح المجتمع أكثر استعداداً لتقبّل القرارات الصعبة إذا كانت واضحة الغاية ومعلومة المسار، لأنّ الثقة تُنتج قابليّة للتفكير الهادئ وللاشتراك في تحمّل الكلفة. أمّا حين تتآكل الثقة، تتقدّم لغة الشك، ويصبح القرار، مهما كان عقلانيّاً، قابلاً للتأويل السلبيّ، وينزلق المجال العام إلى منطق الاتّهام بدل منطق الحوار. وفي هذه الحالة، لا يتعثّر القرار بسبب ضعف صانعه فقط، بل بسبب هشاشة المجال الاجتماعيّ الذي يستقبله.

     كما أنّ العقل الجمعيّ يتكوّن عبر مؤسّسات التنشئة الكبرى، وفي مقدّمتها التعليم والإعلام والخطاب الدينيّ والثقافيّ، إضافةً إلى التجربة الاقتصاديّة والاجتماعيّة اليوميّة. فالمجتمع الذي يتربّى على التفكير النقديّ، وعلى احترام الحقائق، وعلى الاعتراف بالتعدّديّة، ينتج عقلاً جمعيّاً يميل إلى عقلنة السياسة، ويحدّ من نزعات التطرّف في الرأي والسلوك. بينما المجتمع الذي تتسيّد فيه الخطابات السطحية، وتُستبدل فيه المعرفة بالانطباع، يتشكّل فيه عقل جمعيّ هشّ يسهل توجيهه بالشائعات، ويسهل استقطابه بالعاطفة، فتتحوّل صناعة القرار إلى استجابةٍ متأخّرةٍ لموجات الضغط بدل أن تكون مبادرةً واعيةً تقود المستقبل.

     والأهمّ أنّ العقل الجمعيّ ليس قدراً ثابتاً، بل حالةٌ قابلةٌ للتطوير والتهذيب وإعادة البناء. فكلّ مشروع تنمويّ حقيقيّ يحتاج إلى بيئةٍ معرفيّةٍ وأخلاقيّةٍ تساعده على الاستمرار، وإلى مجتمعٍ يميّز بين القرار الذي يخدم الصالح العام وبين القرار الذي يراكم الأزمات. ومن هنا، يصبح الاستثمار في العقل الجمعيّ استثماراً في جودة القرار ذاته، لأنّ السياسة لا تزدهر في فراغٍ معرفيّ، ولا تنجح في مجتمعٍ يتآكل فيه المعنى المشترك. وعليه، فإنّ أي حديثٍ عن صناعة القرار لا يكتمل دون فهمٍ عميقٍ للعقل الجمعيّ بوصفه المصدر الخفيّ للشرعيّة، والميزان غير المرئيّ الذي يرفع القرار أو يُسقطه.

المحور الثاني: مراكز البحث كوسيط معرفيّ بين السياسة والمجتمع

     تتجلّى أهميّة مراكز البحث والتفكير في كونها الحلقة التي تصل بين عالم الأفكار ومجال السياسات العامّة، وبين المعرفة المتخصّصة والاحتياجات الواقعيّة للمجتمع. فهي لا تنتمي بالكامل إلى الحقل الأكاديميّ المنغلق، ولا تذوب في العمل التنفيذيّ اليوميّ، بل تحتلّ موقعاً وسيطاً يتيح لها قراءة الواقع بعمقٍ، وتحويل هذه القراءة إلى تصوّراتٍ قابلةٍ للاستخدام في صناعة القرار. ومن هذا الموقع، تصبح مراكز البحث فاعلاً معرفيّاً لا غنى عنه في المجتمعات التي تسعى إلى عقلنة السياسة وتوجيه التنمية على أسسٍ مستدامة.

     لا تقتصر وظيفة هذه المراكز على جمع البيانات أو إعداد التقارير، بل تتجاوز ذلك إلى تفكيك الظواهر الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، وفهم تداخلاتها، واستشراف مآلاتها المحتملة. فهي تُسهم في نقل السياسة من منطق ردّ الفعل إلى منطق الفعل الاستباقيّ، عبر تقديم سيناريوهاتٍ بديلةٍ، وتقدير المخاطر، وتحليل الفرص. وبهذا المعنى، فإنّها لا تُقدّم وصفاتٍ جاهزةً، بل تفتح أمام صانع القرار أفقاً أوسع للفهم والاختيار، بما يُعزّز رشد القرار ويحدّ من كلفته.

     كما تؤدّي مراكز البحث دوراً مهمّاً في تمثيل صوت المجتمع داخل دوائر صنع السياسات. فمن خلال الدراسات الميدانيّة، واستطلاعات الرأي، والتحليل الاجتماعيّ، تنقل هذه المراكز نبض الفئات المختلفة، وتُحوّل التجربة الاجتماعيّة إلى معرفةٍ منظّمةٍ قابلةٍ للتوظيف. وبهذا، تُسهم في تقليص الفجوة بين الدولة والمجتمع، وتُساعد على بناء سياساتٍ أكثر انسجاماً مع الواقع، وأقلّ عرضةً للرفض أو سوء الفهم. فحين يشعر المجتمع بأنّ قراراته تُبنى على فهمٍ حقيقيّ لمعاناته وتطلّعاته، تتعزّز الثقة، ويصبح التعاون أكثر إمكانيّة.

     غير أنّ هذا الدور الوسيط يواجه تحدّياتٍ بنيويّةً، في مقدّمتها ضعف قنوات التواصل المؤسّسيّ بين مراكز البحث وصنّاع القرار، وتردّد بعض المؤسّسات السياسيّة في الاستناد إلى المعرفة التحليليّة لصالح الاعتبارات الآنيّة أو الضغوط السياسيّة. كما تُواجه بعض مراكز البحث إشكاليّة الاستقلاليّة، سواء من حيث التمويل أو من حيث الأجندات، ما قد يُضعف قدرتها على إنتاج معرفةٍ نقديّةٍ حقيقيّة. وفي المقابل، قد تعاني بعض المراكز من فجوات، حين تُقدّم معرفةً أكاديميّةً معقّدةً يصعب على صانع القرار استيعابها أو ترجمتها إلى سياسات عمليّة. ورغم هذه التحدّيات، تبقى مراكز البحث ركيزةً أساسيّةً في بناء علاقةٍ صحّيّةٍ بين السياسة والمجتمع. فوجودها الفاعل يتيح تحويل العقل الجمعيّ من حالةٍ انفعاليّةٍ إلى حالةٍ تفكر منظّمة، ويُسهم في ترسيخ ثقافة القرار المبنيّ على الدليل لا على الحدس. ومن هنا، فإنّ تمكين مراكز البحث، وتكريس دورها الوسيط، لا يُعدّ ترفاً مؤسّسيّاً، بل شرطاً ضروريّاً لإنتاج سياسةٍ أكثر عقلانيّة، وتنميةٍ أكثر توازناً واستدامة.

المحور الثالث: مراكز البحث والتنمية المستدامة وصناعة المستقبل

     لا يمكن الحديث عن تنميةٍ مستدامةٍ بمعناها العميق دون ربطها بمنظومةٍ معرفيّةٍ قادرةٍ على الفهم والاستشراف والتقويم. فالتنمية ليست سلسلةً من المشاريع المعزولة، ولا مجرّد مؤشّراتٍ اقتصاديّةٍ تُحقّق نمواً مرحليّاً، بل هي مسارٌ طويل الأمد يتطلّب رؤيةً شاملةً تُوازن بين الاحتياجات الآنيّة وحقوق الأجيال القادمة. وفي هذا الإطار، تتقدّم مراكز البحث والتفكير بوصفها الفاعل الأقدر على تحويل مفهوم الاستدامة من شعارٍ سياسيّ إلى إطارٍ عمليّ لصناعة المستقبل.

     تُسهم مراكز البحث في بناء سياساتٍ تنمويّةٍ قائمةٍ على الأدلة، من خلال تحليل المعطيات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والبيئيّة، وربطها بالسياقين المحليّ والعالميّ. فهي تُقدّم قراءةً نقديّةً لتجارب التنمية السابقة، وتُحدّد مكامن النجاح والإخفاق، بما يسمح بتفادي تكرار الأخطاء وتوجيه الموارد نحو مساراتٍ أكثر كفاءة. كما أنّها تُساعد على دمج البعد الاجتماعيّ في السياسات التنمويّة، بحيث لا يُختزل النجاح في الأرقام، بل يُقاس أيضاً بمدى تحسين نوعيّة الحياة، وتعزيز العدالة، وتقليص الفجوات داخل المجتمع.

     ومن أبرز أدوار مراكز البحث في صناعة المستقبل قدرتها على التفكير الاستراتيجيّ بعيد المدى. فهذه المراكز تمتلك الأدوات التحليليّة التي تمكّنها من استشراف التحوّلات الديمغرافيّة، والتكنولوجيّة، والاقتصاديّة، وتقدير آثارها المحتملة على سوق العمل، والتعليم، والخدمات، وأنماط العيش. ومن خلال هذا الاستشراف، تُسهم في مساعدة الدولة على الانتقال من منطق التخطيط القصير الأجل إلى بناء رؤى تنمويّةٍ متكاملةٍ تأخذ في الحسبان تعقيد الواقع وتشابك عوامله. وهنا، تصبح التنمية فعلاً واعياً بالمستقبل لا مجرّد استجابةٍ متأخّرةٍ له.

     كما تلعب مراكز البحث دوراً حاسماً في ترسيخ مبادئ الحوكمة الرشيدة، من خلال تعزيز الشفافيّة، وتقييم السياسات، وقياس الأثر، ومساءلة الأداء العام على أسسٍ علميّة. فالتنمية المستدامة لا تنفصل عن جودة المؤسّسات، ولا يمكن أن تتحقّق في ظلّ قراراتٍ غير خاضعةٍ للتقويم والمتابعة. ومن هذا المنطلق، تُسهم مراكز البحث في خلق ثقافةٍ مؤسّسيّةٍ تقوم على التعلّم المستمرّ، وتصحيح المسار، وربط القرار بالنتائج الفعليّة على أرض الواقع.

     وفي المحصّلة، فإنّ مراكز البحث ليست مكمّلاً ثانويّاً لمشاريع التنمية، بل شرطاً بنيويّاً لنجاحها واستمراريّتها. فالمستقبل لا يُصنع بالارتجال، ولا تُبنى التنمية بالعقل الفردي، بل تحتاج إلى عقلٍ جمعيٍّ مدعومٍ بمعرفةٍ رصينةٍ ورؤيةٍ بعيدة المدى. وحين تُوضع مراكز البحث في قلب مشروع التنمية، تتحوّل السياسة من إدارةٍ للواقع إلى صناعةٍ واعيةٍ للمستقبل، ويغدو النموّ وسيلةً لخدمة الإنسان لا غايةً منفصلةً عنه.

     في ختام هذا المسار التحليليّ، يتّضح أنّ السياسة، حين تنفصل عن التفكير، تفقد قدرتها على التوجيه، وحين ينفصل المجتمع عن المعرفة، يفقد بوصلته في فهم ذاته ومستقبله. فالعقل الجمعيّ ليس مفهوماً تجريديّاً، بل طاقةٌ كامنةٌ تُشكّل ملامح القرار العام، وترسم حدود الممكن التنمويّ. وكلّما كان هذا العقل مشبعاً بالمعرفة، ومنفتحاً على النقد، وقادراً على التمييز بين اللحظة الآنيّة والمصلحة طويلة الأمد، ازدادت قدرة الدولة على صناعة قراراتٍ متّزنةٍ تُعبّر عن المجتمع بدل أن تتجاوزه.

     وعليه، فأنّ مراكز البحث ليست مؤسّساتٍ تقنيّةً هامشيّةً، بل فضاءاتٌ حيويّةٌ لتجميع العقل الجمعيّ وترشيده، ولتحويل المعرفة إلى أداةٍ أخلاقيّةٍ في خدمة السياسة والتنمية. فهي التي تُعيد للقرار معناه، وتحرّره من أسر الارتجال والانفعال، وتمنحه عمقاً استراتيجيّاً يربط بين الحاضر والمستقبل. ومن دون هذا الدور، تغدو التنمية مشروعاً هشّاً، وتتحوّل السياسة إلى إدارةٍ مؤقّتةٍ للأزمات لا إلى صناعةٍ واعيةٍ للفرص التنموية.

     إنّ الرهان الحقيقيّ في المرحلة المقبلة لا يكمن في كثرة الخطط ولا في وفرة الموارد، بل في القدرة على بناء تفكير منظومي يجعل المعرفة في قلب القرار، والمجتمع شريكاً في صياغته. فحين يُستعاد التفكير بوصفه قيمةً عامّةً، وتُمنح مراكز البحث مكانتها الطبيعيّة، يصبح العقل الجمعيّ قادراً على قيادة التنمية لا متابعتها فقط، وتغدو السياسة فعلاً مسؤوليّاً يعبّر عن نضج المجتمع، لا عن قلقه. وهناك فقط، يبدأ المستقبل بوصفه خياراً واعياً، لا مجرّد امتدادٍ مضطربٍ للحاضر.