د. محمد بن عبد العزيز العميريني
د. محمد بن عبد العزيز العميريني
أستاذ في جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية

قراءة في فلسفة المقاصد والإنجاز بين أوستن وسيرل

السبت ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٥

تُعدُّ نظرية الحدث الكلامي -المعروفة أيضاً بنظرية أفعال الكلام- إحدى الركائز الأساسية في حقل اللسانيات التداولية، كما تُعرف كذلك بـ»نظرية الحدث اللغوي» و»النظرية الإنجازية» و»نظرية الفعل الكلامي» وغيرها من الصيغ التي تعكس الأبعاد المختلفة لهذه النظرية. ومرت هذه النظرية بمرحلتين أساسيتين في تطورها: تمثلت الأولى في مرحلة التأسيس على يد الفيلسوف واللغوي الإنجليزي جون لانغشو أوستن، فيما مثلت الأخرى مرحلة النضج والضبط المنهجي على يد تلميذه الفيلسوف الأمريكي جون سيرل، الذي قام بتطوير أفكار أستاذه وتنظيمها في إطار منهجي متماسك. تميز العمل التأسيسي بطرحه رؤية ثورية للغة، انتقلت بها من مجرد أداة للوصف والإخبار إلى وسيلة فاعلة لتحقيق الأفعال والتأثير في الواقع، وبيّن أوستن من خلال تحليله الدقيق أن بعض العبارات اللغوية لا تكتفي بتصوير الواقع، بل تشكّل أفعالاً بحد ذاتها، حيث يكون النطق هو الفعل نفسه، كما في حالات الوعد والقسم والاعتذار. وقد أسهم هذا الإطار النظري في كسر الحاجز التقليدي بين القول والفعل، مشكّلاً أساساً متيناً للسانيات التداولية التي تهتم بدراسة الاستخدام الفعلي للغة في سياقاتها الاجتماعية، كما أرسى أوستن من خلال تحليله ضوابط التمييزَ بين الأفعال التلفظية والأفعال الإنجازية، ليفسح المجال أمام تطوير التصنيفات الأكثر دقة التي قدّمها لاحقاً تلميذه جون سيرل. وأسست طروحات أوستن نصًّا تأسيسيًا في مجال التداوليات، وبالتحديد في طرحه لنظرية أفعال الكلام، حيث…

قراءة فلسفية في مشروع الوعي العربي .. الفكر النحوي أنموذجاً

الأحد ١٦ نوفمبر ٢٠٢٥

     حين نقرأ تاريخ النحو العربي، لا ينبغي أن نراه سرداً لبدايات علم لغوي، بل ولادة لنمط من التفكير العربي يسعى إلى عقلنة اللغة وتنظيمها في نسقٍ يعبّر عن وعيٍ جديد باللغة وقوانينها وأنماطها.      السؤال المتكرر حول كيفية نشأة النحو العربي، ربما ليس بالضرورة أن يُعنى بالإجابة عنه النحويون وحدهم، بل هو تفكير عميق وسرد وقائعي يُركز على مسألة كيف بدأ العربي يفكّر في لغته؟ وكيف تحوّلت تلك اللغة من ممارسة تلقائية إلى موضوع للتفكير المنهجي؟        لست معنياً -هنا- بالحديث عن علم القواعد ورسم القوانين والأنظمة، بل عن ولادة فكرة النظام اللغوي، تلك اللحظة التي خرج فيها اللسان من فضاء الغريزة إلى فضاء العقل، ومن التداول الشفهي إلى الضبط المنهجي، في واحدة من أعظم التحولات الفكرية في الثقافة العربية الإسلامية.       التفسير (السطحي) يربط نشأة النحو بـوقوع اللحن والخطأ في الكلام، خاصة عند اختلاط العربية بغيرها في عصر الفتوحات، وكأنّ العرب لم يفكروا في لغتهم إلا حين أخطأ الآخرون فيها.       ويُرجعنا هذا التفسير (غير الواعي) إلى حوادث فردية تجمع بين التضارب في المضامين، وضعف الرواية أو تباين الرواة في النقل، ناهيك عن كونها لا تُشكل نواة (تفكيرية) أو (تحريضية) لنشأة العلوم، كما أن هذا التفسير يختزل الظاهرة في بُعدها العملي ويُغفل عمقها الفكري.      الذي حدث في…

اللغة العربية .. من بنية التعبير إلى تشكّل الوعي الحضاري

الأربعاء ١٢ نوفمبر ٢٠٢٥

خاص لـ هات بوست:      تشغل اللغة العربية موقعًا متميزًا في البنية الجمالية والثقافية للإنسانية، حيث تتجاوز وظيفتها التواصلية لتُشكّل نظامًا دلاليًا وجماليًا فريدًا. فمن الناحية التاريخية، مثلت العربية وعاءً لحفظ التراث الفكري والأدبي والعلمي، فهي لغة القرآن الكريم الذي نزل بلسان عربي مبين، لذا أسهمت مفرداتها الغنية وتراكيبها البلاغية المعقدة في صياغة وعي جمالي قائم على الإيقاع الصوتي والدقة التعبيرية والعمق الدلالي. وقد تجلّى هذا في النصوص المؤسسة من شعر جاهلي ونصوص دينية وفلسفية، حيث أصبحت العربية لغةً حاملةً لمنظومة قيم جمالية وأخلاقية معًا.      فليست اللغة العربية مجرد أداة اتصال؛ بل هي وعاء حيوي للفكر والجمال، وحاضنة للإبداع الإنساني عبر العصور. فهي تمتلك نسيجاً لغوياً فريداً يجمع بين البلاغة والإيجاز، ويستوعب -أيضاً- أشكال التعبير المعاصرة في الرواية والشعر الحديث والإعلام والفنون البصرية والرقمية، وظلّت قادرةً على استيعاب مستجدات العصر عبر عمليات توليد المصطلحات وتكييف البنى النحوية، مما يفتح آفاقاً جديدة لإحياء جمالياتها في الفضاء الإلكتروني، وتعزيز حضورها في المشهد الثقافي العالمي.      وحين نتأمل في اللغة العربية من زاوية فلسفية حضارية، ندرك أنها منظومة جدلية تحمل في طياتها تناقضًا خفيًا بين وظيفتها كأداة وظيفية وبين قدرتها على أن تكون قوة ميتافيزيقية مولّدة للوعي، هذا التناقض لا يُفهم إلا في إطار الصراع بين ما هو ظاهر –التواصل…

شعر دياحين مطير.. الوجدان القبلي وتجليات الفروسية في الذاكرة البدوية

الأربعاء ٠٥ نوفمبر ٢٠٢٥

خاص لـ هات بوست:        يشكّل الشعر في البادية العربية مرآةً للذات الجماعية، وسجلاً لأحداثها وقيمها، ولئن كان لكل قبيلة صوتها الشعري المميز، فإن شعر الدياحين من قبيلة مطير يبرز بوصفه نموذجاً متفرّداً يجمع بين فروسية القول وصدق الشعور، ويختزن في لغته ملامح الأصالة والكرامة والوفاء، إنّه شعرٌ يتجاوز المديح والفخر إلى بناء سردٍ جمعيٍّ يحفظ الذاكرة، ويعيد صياغة الهوية في زمنٍ تتقاطع فيه القيم وتتشظى الانتماءات، كما يشكّل نصاً ثقافياً يعبّر عن روح البادية ليس بصورتها السطحية فحسب، بل ببنيتها النفسية والعقلية التي تكوّن جوهر الإنسان البدوي.       وليس من الإنصاف أن أشرع في تعداد شعراء الدياحين، أو أن أذكر نماذج من شعرهم ففي التعداد إجحاف بمن يغيب اسمه عن ذاكرتي، وفي الانتقاء ظلم لتجربةٍ أعمق من أن تُختصر في أسماء أو بعض أبيات، غير أنهم اتفقوا في اتجاهات شعرهم على الجمع بين الفروسية والنبل والكرم، وبين حكمة البادية ونبض الصحراء، فشكّلت قصائدهم وجداناً نابضاً بالحياة، مفعماً بالتغني بالمجد، ونبل الأصل، وإغاثة الملهوف، وحفظ الجوار، معتزاً بالحنين ومواقف البطولة.       اعتمد شعر الدياحين على مركزية الفخر، ليس بوصفه ترفاً لغوياً، بل كونه ضرورة لحفظ الذاكرة، فالشاعر لا يمدح مطيراً لأنّها قبيلته فحسب، بل لأنّها رمز للكرامة والبقاء، ولأنها الامتداد الطبيعي للأرض التي تحتضن الفروسية والحرية، لذلك وجدنا في كثير…

العاطفة في شعر الأمير خالد الفيصل..جدلية الوعي والوجدان

الإثنين ٠٣ نوفمبر ٢٠٢٥

         خاص لـ هات بوست:      يُعدّ شعر الأمير خالد الفيصل ظاهرةً جماليةً وفكريةً متفرّدة في الشعر العربي الحديث، لكونه ينتمي إلى الوعي قبل الانتماء إلى المدرسة، فهو لا ينشغل بتقنيات القول بقدر انشغاله بالمعنى الكامن في التجربة الإنسانية، تتجاوز قصيدته العاطفةَ لتلامس الوعي الأخلاقي والفلسفي، إذ تتحول اللغة إلى مرآة للذات الباحثة عن توازنها، إنّ القيمة الحقيقية لشعره تكمن في القدرة على تحويل البساطة إلى تأمل، والوجدان إلى فكر.        إنّ (دايم السيف) شاعر يمارس الشعر كفعلٍ معرفيٍّ، وكأن القصيدة عنده أداة تفكير وجوديّ، تُسائل الإنسان لا تُزيّنه، وتواجهه لتقدم فلسفة عميقة، فباتت كلماته تؤسس لحالةٍ معرفية يتماهى فيها الحدّ الفاصل بين الحلم والوعي، كأن لغته الحالمة نفسها تفكّر في يقظتها ومنامها، لتتحول بعد بزوغها إلى نور يضيء زوايا النفس، وإلى موجٍ يهمس في صمت الزمن، في قصائده التي تنساب عبيراً يليق بألق عاطفته لم تكن مجرد نص تنقصه الروح ، بل رحلة بين أفق الذات وعمق الكون، بين حرارة الحب وصرامة الكرامة، بين شغف الروح وواقع الحال.        عبقرية عاطفته تكمن في تنوع أبعادها وعمق خباياها، فهي تلتقط نبض الطبيعة، ورفرفة الطيور، وهمسات الريح، كما تلتقط نبض الإنسان وهواجسه، كل قصيدة أشبه بجسر بين زمنٍ غابر وأفقٍ مستقبلي، بين الجذر والأفق، بين الهوية والحرية، عاطفته تجمع…

منطق اللغة أو منطق الخطاب؟ نحو تأسيس جدلي لمفهوم التماسك النصي

الأربعاء ٢٩ أكتوبر ٢٠٢٥

     خاص لـ هات بوست:      يُعَدّ التماسك النصي أكثر من مجرد روابط لغوية تُحكِم اتصال الجمل والفقرات، فهو مبدأ فلسفي يكشف عن منطق خفي يحكم اللغة في لحظة انبثاقها خطاباً، فالخطاب لا يتأسس إلا حين تتجاوز اللغة مستوى التراصف اللفظي إلى مستوى البنية الكلية التي تُولِّد المعنى وتُؤسِّس للوعي، ومن -هنا- يصبح التماسك النصي آلية كاشفة عن العلاقة الجدلية بين منطق اللغة الذي يضبط انتظامها الداخلي، وفلسفة الخطاب التي تمنحها أفقها التداولي والمعرفي.         ومصطلح (التماسك النصي) من أكثر المفاهيم اللغوية تركيباً وإثارةً للجدل، لأنه يقف عند حدود العلاقة بين النظام اللغوي بوصفه منطقاً حاكماً للقول، والخطاب بوصفه ممارسة فكرية وثقافية تنتج المعنى في سياقات متغيرة، فإذا كان منطق اللغة يسعى إلى ضبط انتظام البنية وفق قوانين النحو والدلالة وتنوع السياقات المعرفية والوظيفية، فإن فلسفة الخطاب تتجه إلى مساءلة هذا الانتظام، وكشف ما يتخلله من توتر بين اللغة والفكر، لذا فإن التماسك النصي لا يُفهم على أنه خاصية شكلية تنظم ظاهر النص فحسب، بل هو فعل معرفي فلسفي يكشف عن انسجام عميق بين منطق النسق اللغوي ورؤية المتكلم.         وحظي هذا المصطلح أو المفهوم اللساني باهتمام كبير من قبل علماء لسانيات النص في العصر الحديث، وأسهبوا في تحليل مفهوم الارتباط النصي، تعويلاً على فكرة أن التماسك النصي…

جوهر اللغة في الخطاب القرآني.. تأمل في فلسفة التجلي اللغوي

الأحد ٢٦ أكتوبر ٢٠٢٥

خاص لـ هات بوست: منذ أن وعى الإنسانُ نفسه بوصفه كائنًا ناطقًا، ظلّت اللغة موضع سؤالٍ فلسفيٍّ لا ينقضي: أهي أداةٌ للتعبير أم مرآةٌ للوعي؟، وبينما انشغل الفكرُ الغربيّ طويلًا بتحديد طبيعة العلاقة بين اللغة والفكر، جاء الخطاب القرآني ليقلب هذا المنظور من جذوره، مقدِّمًا فلسفةً مغايرة للغة، فلسفةً ترى في الكلمة فعلًا وجوديًّا، لا وسيلةً نفعية.       فالقرآن الكريم —في جوهره اللغوي والفكري— لا يتعامل مع اللغة بوصفها اختراعاً بشريّاً محايداً، بل يتشكل فيها الحيّز اللغوي في أعلى مقاماته، إذ لا شيء في النص القرآني يُقال اعتباطًا، ولا لفظ يُلقى خارج نظام المقاصد، بل إنّ الكلمة القرآنية تنشئ معناها وهي تُقال، فتتحوّل من صوتٍ إلى كشف، ومن تركيبٍ إلى حدث، و-هنا- تتجلّى المفارقة الكبرى: الوحي لا يستخدم اللغة، بل يُعيد تعريفها.      إنّ دراسة الخطاب القرآني فلسفيًّا ولسانيًّا ليست بحثًا في اللغة فحسب، بل في لغة النص القرآني بوصفه أعلى المستويات اللغوية الممكنة، هذا النص لا يتحدث عن العالم فحسب، بل يُعيد تشكيل إدراكنا للعالم، عبر منطقٍ لغويٍّ يتجاوز الفهم الوظيفي إلى الفهم الكشفيّ، ومن ثمّ غدا القرآن الكريم مختبراً فلسفيًّا للغة، يتقاطع فيه البيان مع الوجود، والتعبير مع الكشف، والعقل مع الإلهام.      حاولت في هذا المقال قراءة الخطاب القرآني من منظور فلسفة اللغة، محاولًا استكشاف كيف تتحوّل…

المناقشات العلمية..بين النقد والهيمنة .. تأمل في مأزق الضمير الأكاديمي

الخميس ١٦ أكتوبر ٢٠٢٥

خاص لـ هات بوست:       ليست جلسات مناقشة الرسائل العلمية مجرد إجراءٍ أكاديمي يختتم به الباحث سنوات بحثه، بل هي مرآة للوعي العلمي في مؤسساتنا الجامعية ومراكزنا البحثية، وميزان دقيق يزن نضج الفكر الأكاديمي ومقدار التزامه بأخلاقيات البحث والعدل والإنصاف، وهي لحظات وجودية يتقاسمها الباحث والمناقش والمؤسسة التعليمية، وتُعد فرصة سانحة لإعادة النظر، وتعديل الاتجاهات، وإضاءة الواقع العلمي الراقي، غير أنّ هذه الجلسات-في كثير من الأحيان- تتحول من فضاءٍ لتداول المعرفة إلى ساحةٍ لتمركز الذات الأكاديمية، ومن حوارٍ بحثيّ (أنيق) إلى عرضٍ سلطويّ (تسلطي) يتخفّى في عباءة النقد العلمي.      و-هنا- يكمن الخطر، فحين تنحرف المناقشة عن مقاصدها الأصيلة، لا تتأذى الرسالة وحدها، بل تتصدع فلسفة البحث العلمي نفسها، فما يبدو مجرد ممارسات فردية، هو في جوهره خلل في البنية الفكرية التي تنظّم الفعل العلمي وتضبط روحه.      وحين ينسى المناقش موقعه التربوي يتحول من شريك في العملية النقدية إلى قاضٍ يُحاكم وفق ما يراه دون تمييز بين ما يُقال وبين ما ترتكز عليه العملية البحثية (الهادفة)، وهو ما يمكن تسميته بخطأ الوعي بالموقع، فالمناقشة ليست محكمة، والباحث ليس متَّهَماً، المناقش الحق ليس سلطةً تُصدر حكماً، بل عقل ناقد يُسهم في إنضاج الفكرة، ولكن حين يتحول النقد إلى إدانة، وتُختزل الجلسة في استعراضٍ معرفي يطغى عليه جانب (الاعتداد بالذات)،…

محمد بن سلمان: جدل الوعي والتاريخ في تأسيس الممكن الجديد

الثلاثاء ١٤ أكتوبر ٢٠٢٥

خاص لـ هات بوست:      يعد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -يحفظه الله- فاعلاً سياسياً في مرحلة انتقالية تخوضها المملكة العربية السعودية، فخطاباته تشكل تحوّلاً عميقاً وتحدث أفعاله هزات ارتدادية في وعي الدولة والمجتمع السعودي والعالم كافة.  فالقادة اليوم لا يوصفون بأنهم إداريون أو مصلحون فقط، بل هم فلاسفة الوجود العملي، لا يكتبون رؤاهم على الورق، إنما في نسيج الكينونة نفسها، فلا يُقاس التحول التاريخي بحجم القرارات السياسية المتبعة فحسب، وإنما بما يُحدثه من تغيرات في بنية الوعي الجمعي، وبما يقدّمه -أيضاً-من إعادة تعريف لحدود الممكن والمفكَّر فيه، فخطابه اليوم تحرّر من سطحية الشعارات، ولم يعد بياناً تواصلياً مع شعبه فقط، إنما أصبح أنطولوجيا جديدة للوجود الوطني السعودي، لأن كلمته لا تُقال لتُسمع، بل تُقال لتُغيّر وتحدث أثرا ملموساً. في قلب هذا التحوّل الوطني السعودي، يبرز ولي العهد بوصفه صانع قرار، وصانع وعي، وفاعلًا مغيراً في التاريخ، لا مجرّد زعيم سياسي؛ لأنه لم يكتفِ بإنتاج خطاب إصلاحي أو تحديثي، بل صاغ (أنطولوجيا) جديدة للوجود السعودي، يحاول من خلالها إعادة صياغة علاقة الدولة بالإنسان، والممكن بالواقع، والفعل بالزمن، والتاريخ بالمستقبل، إنه يسعى لبناء خطاب يعيد بناء الوعي من داخل التجربة السعودية ومراعاة خصوصياتها، ويحرّرها من قيود الحتمية إلى أفق الاختيار الحر والفاعل، إنّ مشروعه لا يقوم على القول فحسب،…

العشق بوصفه تفكيرًا: قراءة في جدلية المعنى الشعري عند بدر بن عبد المحسن

الخميس ٠٩ أكتوبر ٢٠٢٥

خاص لـ هات بوست:        ليس الشعر عند الأمير بدر بن عبد المحسن تعبيرًا عن العاطفة، بل تفكيرٌ بالعاطفة، واستنطاقٌ للوجود من داخل اللغة، في شعره تداخل بين حدود الحس والعقل، ليولد المعنى العميق من التوتر بينهما، فقصيدته لا تبحث عن الجمال بوصفه زينةً للقول، بل عن الحقيقة بوصفها جوهر الوجد، في شعره تتقاطع الأسئلة الكبرى: من أين يأتي المعنى؟ وما جوهر العشق؟ .       يكتب البدر من أعماق الفكر والوجدان معًا، من منطقةٍ مشتعلةٍ يتداخل فيها الحسّ بالحدس، والحنين بالوعي، إنّه لا يصف الواقع، بل يعيد بناءه لغويًّا، كما لو أنّ القصيدة مختبرٌ أنطولوجيّ يعيد تعريف الإنسان في مواجهة ذاته والآخر والمطلق، ومن -هنا- تتولّد جدليته الشعرية: إن العشق ليس شعورًا، بل طريقة في الوجود ورؤية فلسفية، وأن اللغة ليست وسيلة، بل كينونة تتفكّر بذاتها.      إن الذات في شعر البدر ليست مركزًا مغلقاً، بل كائنٌ مفتوح على العالم، إنّها ذاتٌ تُعرّف نفسها من خلال علاقتها بالوجود، لا من خلال انعكاسها عليه، ولهذا لا يظهر الإنسان في شعره بوصفه متكلّماً فحسب، بل بوصفه كائنًا يتأمّل وجوده في فضاءٍ من الأسئلة، وبهذا يقرب شعره من التصور الوجودي الذي ينطلق من أن القلق شرط الوعي بالحرية والاختيار.       وحين يتحدث البدر عن (الوقت) و(المكان)، ويرددهما كثيراً في أشعاره، ويُدخلنا في حيرة…

المعجم العربي بين الذاكرة والوعي الآلي.. تأملات في حوسبة المعنى وجدلية الوجود اللغوي

الأربعاء ٠٨ أكتوبر ٢٠٢٥

خاص لـ هات بوست:      في ظل التحولات الرقمية المتسارعة التي أعادت تشكيل البنية المعرفية للغة في عصر الذكاء الاصطناعي، غدت حوسبة المعاجم العربية مشروعًا علميًّا يتجاوز مجرد رقمنة المادة اللغوية إلى إعادة هندسة الوعي المعجمي نفسه وفق منطق البيانات والخوارزميات، فالمعجم لم يعد وعاءً تقليديًا لتوثيق الألفاظ، بل أصبح منظومة معرفية متكاملة، تتفاعل مع أنظمة التعلم العميق ومعالجات اللغة الطبيعية في بناء نماذج تفهم العربية ليس على مستوى الشكل فحسب، بل على مستوى الدلالة والسياق والتداول، ومن -هنا- تبرز إشكالية مركزية: كيف يمكن مواءمة البنية المعجمية العربية – بما تحمله من تراث صرفي ودلالي عميق – مع منطق الخوارزميات الاصطناعية التي تستند إلى الإحصاء والتعلّم الذاتي؟. إن الإجابة عن هذا السؤال تقتضي استراتيجيات متعددة تجمع بين النمذجة اللغوية والتحليل الخوارزمي والتصميم البنيوي للبيانات، في إطار مشروع معرفي يسعى إلى تحويل المعجم العربي من مخزون وصفي إلى كيان ذكي قادر على الفهم والإنتاج والمقارنة، وبذلك تنتقل العربية من مرحلة (التمثيل النصي) إلى مرحلة (التمكين الخوارزمي).       وتُعدّ حوسبة اللغة العربية أحد المسارات البحثية الحديثة التي تهدف إلى تحويل اللغة من نسق رمزي بشري إلى منظومة رقمية قابلة للمعالجة الآلية، وقد نشأت هذه الفكرة في سياق التفاعل المتزايد بين اللسانيات الحاسوبية وعلوم الذكاء الاصطناعي، حيث تبلورت الحاجة إلى تمثيل الظواهر اللغوية…

العربية بين جدلية الهوية وأفق الكونية

الإثنين ٢٩ سبتمبر ٢٠٢٥

خاص لـ هات بوست:      تشغل اللغة العربية موقعًا متميزًا في البنية الجمالية والثقافية للإنسانية، حيث تتجاوز وظيفتها التواصلية لتُشكّل نظامًا دلاليًا وجماليًا فريدًا؛ فمن الناحية التاريخية، مثلت العربية وعاءً لحفظ التراث الفكري والأدبي والعلمي، فهي لغة القرآن الكريم الذي نزل بلسان عربي مبين، لذا أسهمت مفرداتها الغنية وتراكيبها البلاغية المعقدة في صياغة وعي جمالي قائم على الإيقاع الصوتي والدقة التعبيرية والعمق الدلالي. وقد تجلّى هذا في النصوص المؤسسة من شعر جاهلي ونصوص دينية وفلسفية، حيث أصبحت العربية لغةً حاملةً لمنظومة قيم جمالية وأخلاقية معًا. فليست اللغة العربية مجرد أداة اتصال؛ بل هي وعاء حيوي للفكر والجمال، وحاضنة للإبداع الإنساني عبر العصور، إذ تمتلك نسيجاً لغوياً فريداً يجمع بين البلاغة والإيجاز، ويستوعب -أيضاً- أشكال التعبير المعاصرة في الرواية والشعر الحديث والإعلام والفنون البصرية والرقمية، وظلّت قادرةً على استيعاب مستجدات العصر عبر عمليات توليد المصطلحات وتكييف البنى النحوية، مما يفتح آفاقاً جديدة لإحياء جمالياتها في الفضاء الإلكتروني، وتعزيز حضورها في المشهد الثقافي العالمي. وحين نتأمل في اللغة العربية من زاوية فلسفية حضارية، ندرك أننا أمام ظاهرة تتجاوز حدود اللسان إلى فضاء الفكر والوجود، فهي ليست مجرد وسيلة لتوصيل المعنى أو تبادل الخطاب، وإنما منظومة جدلية تحمل في طياتها تناقضًا خفيًا بين وظيفتها بوصفها أداة وظيفية، وبين قدرتها على أن تكون…