د. محمد بن عبد العزيز العميريني
د. محمد بن عبد العزيز العميريني
أستاذ في جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية

العاطفة في شعر الأمير خالد الفيصل..جدلية الوعي والوجدان

الإثنين ٠٣ نوفمبر ٢٠٢٥

         خاص لـ هات بوست:      يُعدّ شعر الأمير خالد الفيصل ظاهرةً جماليةً وفكريةً متفرّدة في الشعر العربي الحديث، لكونه ينتمي إلى الوعي قبل الانتماء إلى المدرسة، فهو لا ينشغل بتقنيات القول بقدر انشغاله بالمعنى الكامن في التجربة الإنسانية، تتجاوز قصيدته العاطفةَ لتلامس الوعي الأخلاقي والفلسفي، إذ تتحول اللغة إلى مرآة للذات الباحثة عن توازنها، إنّ القيمة الحقيقية لشعره تكمن في القدرة على تحويل البساطة إلى تأمل، والوجدان إلى فكر.        إنّ (دايم السيف) شاعر يمارس الشعر كفعلٍ معرفيٍّ، وكأن القصيدة عنده أداة تفكير وجوديّ، تُسائل الإنسان لا تُزيّنه، وتواجهه لتقدم فلسفة عميقة، فباتت كلماته تؤسس لحالةٍ معرفية يتماهى فيها الحدّ الفاصل بين الحلم والوعي، كأن لغته الحالمة نفسها تفكّر في يقظتها ومنامها، لتتحول بعد بزوغها إلى نور يضيء زوايا النفس، وإلى موجٍ يهمس في صمت الزمن، في قصائده التي تنساب عبيراً يليق بألق عاطفته لم تكن مجرد نص تنقصه الروح ، بل رحلة بين أفق الذات وعمق الكون، بين حرارة الحب وصرامة الكرامة، بين شغف الروح وواقع الحال.        عبقرية عاطفته تكمن في تنوع أبعادها وعمق خباياها، فهي تلتقط نبض الطبيعة، ورفرفة الطيور، وهمسات الريح، كما تلتقط نبض الإنسان وهواجسه، كل قصيدة أشبه بجسر بين زمنٍ غابر وأفقٍ مستقبلي، بين الجذر والأفق، بين الهوية والحرية، عاطفته تجمع…

منطق اللغة أو منطق الخطاب؟ نحو تأسيس جدلي لمفهوم التماسك النصي

الأربعاء ٢٩ أكتوبر ٢٠٢٥

     خاص لـ هات بوست:      يُعَدّ التماسك النصي أكثر من مجرد روابط لغوية تُحكِم اتصال الجمل والفقرات، فهو مبدأ فلسفي يكشف عن منطق خفي يحكم اللغة في لحظة انبثاقها خطاباً، فالخطاب لا يتأسس إلا حين تتجاوز اللغة مستوى التراصف اللفظي إلى مستوى البنية الكلية التي تُولِّد المعنى وتُؤسِّس للوعي، ومن -هنا- يصبح التماسك النصي آلية كاشفة عن العلاقة الجدلية بين منطق اللغة الذي يضبط انتظامها الداخلي، وفلسفة الخطاب التي تمنحها أفقها التداولي والمعرفي.         ومصطلح (التماسك النصي) من أكثر المفاهيم اللغوية تركيباً وإثارةً للجدل، لأنه يقف عند حدود العلاقة بين النظام اللغوي بوصفه منطقاً حاكماً للقول، والخطاب بوصفه ممارسة فكرية وثقافية تنتج المعنى في سياقات متغيرة، فإذا كان منطق اللغة يسعى إلى ضبط انتظام البنية وفق قوانين النحو والدلالة وتنوع السياقات المعرفية والوظيفية، فإن فلسفة الخطاب تتجه إلى مساءلة هذا الانتظام، وكشف ما يتخلله من توتر بين اللغة والفكر، لذا فإن التماسك النصي لا يُفهم على أنه خاصية شكلية تنظم ظاهر النص فحسب، بل هو فعل معرفي فلسفي يكشف عن انسجام عميق بين منطق النسق اللغوي ورؤية المتكلم.         وحظي هذا المصطلح أو المفهوم اللساني باهتمام كبير من قبل علماء لسانيات النص في العصر الحديث، وأسهبوا في تحليل مفهوم الارتباط النصي، تعويلاً على فكرة أن التماسك النصي…

جوهر اللغة في الخطاب القرآني.. تأمل في فلسفة التجلي اللغوي

الأحد ٢٦ أكتوبر ٢٠٢٥

خاص لـ هات بوست: منذ أن وعى الإنسانُ نفسه بوصفه كائنًا ناطقًا، ظلّت اللغة موضع سؤالٍ فلسفيٍّ لا ينقضي: أهي أداةٌ للتعبير أم مرآةٌ للوعي؟، وبينما انشغل الفكرُ الغربيّ طويلًا بتحديد طبيعة العلاقة بين اللغة والفكر، جاء الخطاب القرآني ليقلب هذا المنظور من جذوره، مقدِّمًا فلسفةً مغايرة للغة، فلسفةً ترى في الكلمة فعلًا وجوديًّا، لا وسيلةً نفعية.       فالقرآن الكريم —في جوهره اللغوي والفكري— لا يتعامل مع اللغة بوصفها اختراعاً بشريّاً محايداً، بل يتشكل فيها الحيّز اللغوي في أعلى مقاماته، إذ لا شيء في النص القرآني يُقال اعتباطًا، ولا لفظ يُلقى خارج نظام المقاصد، بل إنّ الكلمة القرآنية تنشئ معناها وهي تُقال، فتتحوّل من صوتٍ إلى كشف، ومن تركيبٍ إلى حدث، و-هنا- تتجلّى المفارقة الكبرى: الوحي لا يستخدم اللغة، بل يُعيد تعريفها.      إنّ دراسة الخطاب القرآني فلسفيًّا ولسانيًّا ليست بحثًا في اللغة فحسب، بل في لغة النص القرآني بوصفه أعلى المستويات اللغوية الممكنة، هذا النص لا يتحدث عن العالم فحسب، بل يُعيد تشكيل إدراكنا للعالم، عبر منطقٍ لغويٍّ يتجاوز الفهم الوظيفي إلى الفهم الكشفيّ، ومن ثمّ غدا القرآن الكريم مختبراً فلسفيًّا للغة، يتقاطع فيه البيان مع الوجود، والتعبير مع الكشف، والعقل مع الإلهام.      حاولت في هذا المقال قراءة الخطاب القرآني من منظور فلسفة اللغة، محاولًا استكشاف كيف تتحوّل…

المناقشات العلمية..بين النقد والهيمنة .. تأمل في مأزق الضمير الأكاديمي

الخميس ١٦ أكتوبر ٢٠٢٥

خاص لـ هات بوست:       ليست جلسات مناقشة الرسائل العلمية مجرد إجراءٍ أكاديمي يختتم به الباحث سنوات بحثه، بل هي مرآة للوعي العلمي في مؤسساتنا الجامعية ومراكزنا البحثية، وميزان دقيق يزن نضج الفكر الأكاديمي ومقدار التزامه بأخلاقيات البحث والعدل والإنصاف، وهي لحظات وجودية يتقاسمها الباحث والمناقش والمؤسسة التعليمية، وتُعد فرصة سانحة لإعادة النظر، وتعديل الاتجاهات، وإضاءة الواقع العلمي الراقي، غير أنّ هذه الجلسات-في كثير من الأحيان- تتحول من فضاءٍ لتداول المعرفة إلى ساحةٍ لتمركز الذات الأكاديمية، ومن حوارٍ بحثيّ (أنيق) إلى عرضٍ سلطويّ (تسلطي) يتخفّى في عباءة النقد العلمي.      و-هنا- يكمن الخطر، فحين تنحرف المناقشة عن مقاصدها الأصيلة، لا تتأذى الرسالة وحدها، بل تتصدع فلسفة البحث العلمي نفسها، فما يبدو مجرد ممارسات فردية، هو في جوهره خلل في البنية الفكرية التي تنظّم الفعل العلمي وتضبط روحه.      وحين ينسى المناقش موقعه التربوي يتحول من شريك في العملية النقدية إلى قاضٍ يُحاكم وفق ما يراه دون تمييز بين ما يُقال وبين ما ترتكز عليه العملية البحثية (الهادفة)، وهو ما يمكن تسميته بخطأ الوعي بالموقع، فالمناقشة ليست محكمة، والباحث ليس متَّهَماً، المناقش الحق ليس سلطةً تُصدر حكماً، بل عقل ناقد يُسهم في إنضاج الفكرة، ولكن حين يتحول النقد إلى إدانة، وتُختزل الجلسة في استعراضٍ معرفي يطغى عليه جانب (الاعتداد بالذات)،…

محمد بن سلمان: جدل الوعي والتاريخ في تأسيس الممكن الجديد

الثلاثاء ١٤ أكتوبر ٢٠٢٥

خاص لـ هات بوست:      يعد ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -يحفظه الله- فاعلاً سياسياً في مرحلة انتقالية تخوضها المملكة العربية السعودية، فخطاباته تشكل تحوّلاً عميقاً وتحدث أفعاله هزات ارتدادية في وعي الدولة والمجتمع السعودي والعالم كافة.  فالقادة اليوم لا يوصفون بأنهم إداريون أو مصلحون فقط، بل هم فلاسفة الوجود العملي، لا يكتبون رؤاهم على الورق، إنما في نسيج الكينونة نفسها، فلا يُقاس التحول التاريخي بحجم القرارات السياسية المتبعة فحسب، وإنما بما يُحدثه من تغيرات في بنية الوعي الجمعي، وبما يقدّمه -أيضاً-من إعادة تعريف لحدود الممكن والمفكَّر فيه، فخطابه اليوم تحرّر من سطحية الشعارات، ولم يعد بياناً تواصلياً مع شعبه فقط، إنما أصبح أنطولوجيا جديدة للوجود الوطني السعودي، لأن كلمته لا تُقال لتُسمع، بل تُقال لتُغيّر وتحدث أثرا ملموساً. في قلب هذا التحوّل الوطني السعودي، يبرز ولي العهد بوصفه صانع قرار، وصانع وعي، وفاعلًا مغيراً في التاريخ، لا مجرّد زعيم سياسي؛ لأنه لم يكتفِ بإنتاج خطاب إصلاحي أو تحديثي، بل صاغ (أنطولوجيا) جديدة للوجود السعودي، يحاول من خلالها إعادة صياغة علاقة الدولة بالإنسان، والممكن بالواقع، والفعل بالزمن، والتاريخ بالمستقبل، إنه يسعى لبناء خطاب يعيد بناء الوعي من داخل التجربة السعودية ومراعاة خصوصياتها، ويحرّرها من قيود الحتمية إلى أفق الاختيار الحر والفاعل، إنّ مشروعه لا يقوم على القول فحسب،…

العشق بوصفه تفكيرًا: قراءة في جدلية المعنى الشعري عند بدر بن عبد المحسن

الخميس ٠٩ أكتوبر ٢٠٢٥

خاص لـ هات بوست:        ليس الشعر عند الأمير بدر بن عبد المحسن تعبيرًا عن العاطفة، بل تفكيرٌ بالعاطفة، واستنطاقٌ للوجود من داخل اللغة، في شعره تداخل بين حدود الحس والعقل، ليولد المعنى العميق من التوتر بينهما، فقصيدته لا تبحث عن الجمال بوصفه زينةً للقول، بل عن الحقيقة بوصفها جوهر الوجد، في شعره تتقاطع الأسئلة الكبرى: من أين يأتي المعنى؟ وما جوهر العشق؟ .       يكتب البدر من أعماق الفكر والوجدان معًا، من منطقةٍ مشتعلةٍ يتداخل فيها الحسّ بالحدس، والحنين بالوعي، إنّه لا يصف الواقع، بل يعيد بناءه لغويًّا، كما لو أنّ القصيدة مختبرٌ أنطولوجيّ يعيد تعريف الإنسان في مواجهة ذاته والآخر والمطلق، ومن -هنا- تتولّد جدليته الشعرية: إن العشق ليس شعورًا، بل طريقة في الوجود ورؤية فلسفية، وأن اللغة ليست وسيلة، بل كينونة تتفكّر بذاتها.      إن الذات في شعر البدر ليست مركزًا مغلقاً، بل كائنٌ مفتوح على العالم، إنّها ذاتٌ تُعرّف نفسها من خلال علاقتها بالوجود، لا من خلال انعكاسها عليه، ولهذا لا يظهر الإنسان في شعره بوصفه متكلّماً فحسب، بل بوصفه كائنًا يتأمّل وجوده في فضاءٍ من الأسئلة، وبهذا يقرب شعره من التصور الوجودي الذي ينطلق من أن القلق شرط الوعي بالحرية والاختيار.       وحين يتحدث البدر عن (الوقت) و(المكان)، ويرددهما كثيراً في أشعاره، ويُدخلنا في حيرة…

المعجم العربي بين الذاكرة والوعي الآلي.. تأملات في حوسبة المعنى وجدلية الوجود اللغوي

الأربعاء ٠٨ أكتوبر ٢٠٢٥

خاص لـ هات بوست:      في ظل التحولات الرقمية المتسارعة التي أعادت تشكيل البنية المعرفية للغة في عصر الذكاء الاصطناعي، غدت حوسبة المعاجم العربية مشروعًا علميًّا يتجاوز مجرد رقمنة المادة اللغوية إلى إعادة هندسة الوعي المعجمي نفسه وفق منطق البيانات والخوارزميات، فالمعجم لم يعد وعاءً تقليديًا لتوثيق الألفاظ، بل أصبح منظومة معرفية متكاملة، تتفاعل مع أنظمة التعلم العميق ومعالجات اللغة الطبيعية في بناء نماذج تفهم العربية ليس على مستوى الشكل فحسب، بل على مستوى الدلالة والسياق والتداول، ومن -هنا- تبرز إشكالية مركزية: كيف يمكن مواءمة البنية المعجمية العربية – بما تحمله من تراث صرفي ودلالي عميق – مع منطق الخوارزميات الاصطناعية التي تستند إلى الإحصاء والتعلّم الذاتي؟. إن الإجابة عن هذا السؤال تقتضي استراتيجيات متعددة تجمع بين النمذجة اللغوية والتحليل الخوارزمي والتصميم البنيوي للبيانات، في إطار مشروع معرفي يسعى إلى تحويل المعجم العربي من مخزون وصفي إلى كيان ذكي قادر على الفهم والإنتاج والمقارنة، وبذلك تنتقل العربية من مرحلة (التمثيل النصي) إلى مرحلة (التمكين الخوارزمي).       وتُعدّ حوسبة اللغة العربية أحد المسارات البحثية الحديثة التي تهدف إلى تحويل اللغة من نسق رمزي بشري إلى منظومة رقمية قابلة للمعالجة الآلية، وقد نشأت هذه الفكرة في سياق التفاعل المتزايد بين اللسانيات الحاسوبية وعلوم الذكاء الاصطناعي، حيث تبلورت الحاجة إلى تمثيل الظواهر اللغوية…

العربية بين جدلية الهوية وأفق الكونية

الإثنين ٢٩ سبتمبر ٢٠٢٥

خاص لـ هات بوست:      تشغل اللغة العربية موقعًا متميزًا في البنية الجمالية والثقافية للإنسانية، حيث تتجاوز وظيفتها التواصلية لتُشكّل نظامًا دلاليًا وجماليًا فريدًا؛ فمن الناحية التاريخية، مثلت العربية وعاءً لحفظ التراث الفكري والأدبي والعلمي، فهي لغة القرآن الكريم الذي نزل بلسان عربي مبين، لذا أسهمت مفرداتها الغنية وتراكيبها البلاغية المعقدة في صياغة وعي جمالي قائم على الإيقاع الصوتي والدقة التعبيرية والعمق الدلالي. وقد تجلّى هذا في النصوص المؤسسة من شعر جاهلي ونصوص دينية وفلسفية، حيث أصبحت العربية لغةً حاملةً لمنظومة قيم جمالية وأخلاقية معًا. فليست اللغة العربية مجرد أداة اتصال؛ بل هي وعاء حيوي للفكر والجمال، وحاضنة للإبداع الإنساني عبر العصور، إذ تمتلك نسيجاً لغوياً فريداً يجمع بين البلاغة والإيجاز، ويستوعب -أيضاً- أشكال التعبير المعاصرة في الرواية والشعر الحديث والإعلام والفنون البصرية والرقمية، وظلّت قادرةً على استيعاب مستجدات العصر عبر عمليات توليد المصطلحات وتكييف البنى النحوية، مما يفتح آفاقاً جديدة لإحياء جمالياتها في الفضاء الإلكتروني، وتعزيز حضورها في المشهد الثقافي العالمي. وحين نتأمل في اللغة العربية من زاوية فلسفية حضارية، ندرك أننا أمام ظاهرة تتجاوز حدود اللسان إلى فضاء الفكر والوجود، فهي ليست مجرد وسيلة لتوصيل المعنى أو تبادل الخطاب، وإنما منظومة جدلية تحمل في طياتها تناقضًا خفيًا بين وظيفتها بوصفها أداة وظيفية، وبين قدرتها على أن تكون…

فكرة (المدارس النحوية) زيفٌ أو حقيقة؟

الإثنين ٢٢ سبتمبر ٢٠٢٥

خاص لـ هات بوست:  اقتضت طبيعة التفكير النحوي القديم تأسيس النحو العربي تأسيسا غير منظم في مراحله الأولى لأمرين رئيسين: طبيعة المرحلة، وإشكالية التأليف في علوم ليس لها معادل أو مقايس، ويُحمد لتلك المرحلة تأسيس قواعد كلية انطلقت من قراءة عميقة للنص القرآني، وللمنقول عن العرب بالاعتماد على النسق الفلسفي الذي تجاوز الجزئي إلى الكلي (الاستقراء)، هذا التقعيد الذي بدأت إرهاصاته منتصف القرن الأول الهجري أو قبله، لا يمثل في نظري أي مدرسة نحوية بالمفهوم العلمي والفلسفي للمدرسة، ناهيك عن المفاهيم التربوية التأسيسية التي تقتضي ضوابط محددة، وقرائن معتبرة فيما يمكن أن ننعته بالمدرسة بمفهومها الخاص أو العام، والضوابط التي تحدد المنطقيات المتعلقة بالتحديد الزمني والمكاني، بالإضافة إلى واقع الحال، وإشكاليات الثقافة المعاصرة التي تقتضي منهجية واضحة، وأطر فلسفية لصناعة (المدرسة) دون التقيد بشخصيات محددة، أو الاقتصار على موضوع، أو الارتباط بتجمع علمي، أو التركيز على طابع الاتجاه، لا سيما في العصور الأولى (حتى نهاية القرن الثالث فيما أرى)، إذ لم تكن ذات فلسفة تُعنى بالتدريس تحت رئاسة محددة، أو تلمذة معينة، وفق أسس واقعية للمفاضلة المدرسية. وحين نعمل على استرداد التاريخ بوصفه منهجا يُحتكم إليه ونحاول قراءته وفق ضوابط الفكر النحوي مع إنعام النظر في حوادثه وأحاديثه خصوصاً فترة(التكوين) أو (النضج) لسنا أمام عملية تقنية (جامدة) تهدف إلى جمع…

العربية..خلود اللغة وأبدية الهوية

الخميس ١١ سبتمبر ٢٠٢٥

خاص لـ هات بوست:          عندما نتأمل فكرة "انقراض اللغة"، فإننا حينها نستحضر المشهد التاريخي للغاتٍ عظمى خبت أضواؤها وانطوت صفحاتها ، وأفلت تراكيبها، وفنيت معانيها مع انطواء حضاراتها، لغاتٌ كانت  أسفار الحكمة أعظم مدوناتها، يُنسَج بها تاريخ الإنسان ومراحله، ثم تحولت إلى أثر أو بقايا كتابات على جدران صامتة لا تُبين، أو كان أقل أحوالها تداخلها مع لغات أخرى، أو ضياعها في جوف التاريخ، فلا باعث لها ولا مستذكر، ولا حارس أمين يُرجى ويُترقب، كُتب لها الضياع والأفول في خضمّ أطوار الحياة، وربما لم يعد لها أطلال يتغنّى بها المنشدون، أو يتباكى بجوارها المحبون، أو يندب عاثر حظها التائهون.        لكن السؤال الآن: هل يمكن أن تنقرض العربية أو هي عصيّة على ذلك؟.       الإجابة عن هذا السؤال ربما تحمل شجوناً وتداخلات تتجاوز حدود النفي السريع غير الواعي إلى فضاء أعمق من الفلسفة والتاريخ معًا، فالعربية ليست لغة عابرة حملتها الظروف ثم تركتها لتقاوم دون مُعين أو مُغيث، وليست مجرد وسيلة نفعية للاتصال يمكن أن تُستبدل بأخرى حين يمل منها المتحدثون، بل لغة انصهرت في وجدان أمة، وتشابكت مع هوية ملايين البشر، وتجلّت في أعظم نص عرفه التاريخ: القرآن الكريم، هذا الكتاب العظيم كفيل بأن يمنحها حصانة دائمة تحميها من الزوال وتكفكف هنّاتها عبر العصور، فاللغة التي ارتبطت بالوحي…

اللغة العربية والهوية..بين الأصالة والتحول الحضاري

الجمعة ٠٥ سبتمبر ٢٠٢٥

خاص لـ هات بوست:        أكد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في محافل عدة على أهمية اللغة العربية، وضرورة الاعتزاز بها، وغرسها في نفوس الأجيال، وتطوير مناهج تعليمها، لتظل لغة قادرة على مواكبة العلوم والتقنية، وحاضرة في ميادين الإبداع والابتكار، وألمح إلى أنها ذاكرة الوجود ومرآة الكينونة مصرحاً بأن:" اللغة العربية هي أداة رئيسة لتعزيز هويتنا الوطنية لدى أجيالنا القادمة، لأنها المعبرة عن قيمنا وثقافتنا وتميزنا التاريخي"، وعمّق المسؤولية حين تجاوز في حديثه حدود الخطابة إلى استحضار بعدها الوجودي حين قال:إن "لغتنا العربية لغة حية غنية، نابضة بالحياة، بقيت محافظة على أصالتها لأكثر من 2000 عام، وتتميز بقدرتها على مواكبة الحاضر والمستقبل، والإسهام في الحفاظ على اللغة العربية هو قيمة إسلامية، وفريضة وطنية، وترسيخ لهويتنا وجذورنا التاريخية"، وفي توجيهه هذا يُلمح سموه إلى أن اللغة ليست انعكاساً للوعي فحسب، بل هي شرط إمكانه.     من تلك المنطلقات التي وضعها سموه، وحرص على تأكيدها مراراً يمكن القول بأن اللغة  أيا كانت تستطيع أن تكوّن هوية الإنسان، فهي الوعاء الذي من خلاله تنطقُ مكوناته التعبيرية عما يجول في ذهنه من أفكار، وما يخطر في قلبه من مشاعر، وهي الشكل الخارجي الذي يحتمل مدلولات ذلك وإشاراته بشكل لافت للأنظار، خالب للألباب، معبّر عن نغمية الروح، وجمال التصور، وفردانية التقدير، ولعلّ…

اغتراب العقل الأكاديمي.. تأملات في غياب المشروع المعرفي في الجامعات العربية

السبت ٠٧ يونيو ٢٠٢٥

     يشكّل العقل الأكاديمي أحد الأعمدة الحيوية لبناء الوعي المجتمعي، وتشكيل المشروع الحضاري للأمم، وتكوين الخطاب العلمي الممنهج، القائم على الأسس والمفاهيم المتعارف عليها في نطاق الجامعات ومؤسسات التعليم المختلفة، وفق آليات تسمح بنشر الثقافة المقننة، والمشروعات العلمية ذات الطابع الأكاديمي والفكري، غير أن المتتبع لمسار الجامعات العربية يجد أن هذا العقل (الأكاديمي) يعاني من حالة اغتراب متفاقم تتركز في انفصاله عن وظيفته الأساسية في إنتاج المعرفة البحثية، وتقرير الوعي النقدي، والإسهام الفاعل في بلورة مشروعات حضارية وثقافية تعكس خصوصية الواقع الجامعي، وتتماهى مع هوية المجتمع، وتستجيب لمتغيرات العصر وتحولاته سريعة الوتيرة.       من -هنا- بات المشروع المعرفي والرؤية الفكرية والعلمية للجامعات يخضع لمعايير تصنيف مختلفة، تبدأ من التسطيح المنهجي وتنتهي بالوقوف عند المعرفة بوصفها إنتاجاً داخلياً يهدف إلى مجرد التعليم دون التأهيل والممارسة الفاعلة، والمؤثرة في تكوين الفرد أو المتعلم، فأضحت المعايير الدولية أو المحلية التي تتمثلها الجامعات أولى من الحاجات المعرفية الملحة.      هذا الوضع أسلم إلى مشكلتين رئيستين: المشكلة الأولى نشوء ما يسمى بالقطيعة المعرفية بين الجامعة والمجتمع، إذ تركزت الدراسات البحثية ذات الأولوية القصوى في الجامعات على جانب الاهتمام بالمعايير الفنية، وأنظمة التصنيف والجودة، والمقارنات المختلفة، وبات الأستاذ الأكاديمي محصوراً في دائرة ضيقة من التخصصات والتوجهات البحثية التي لا تتناول هموم المجتمع، ولا تتفاعل مع قضاياه…