عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي
قرأت قبل أيام في «الشرق الأوسط» مقالة للأستاذ سمير عطا الله يذكر فيها أن أكبر أعطاب نخب هذه الأمة هو الإنكار، أي عدم الاعتراف بالوقائع أو الارتكابات، وبالتالي عدم تقدير عواقبها. كان الأستاذ عطا الله يتحدث في معرض آخر، أما الذي استدعى الاستشهاد به فهو الحدث الباريسي، ثم الحدث اللبناني، وقبل ذلك أحداث العراق وسوريا وليبيا واليمن، وغيرها، على مدى العقدين الماضيين، وبخاصة بعد التاريخين اللذين لن ينسيا (عام 2001، وعام 2011). هناك داء عياء استشرى بداخل الدين. وقد استشرفت معالمه وأعراضه في أحداث أفغانستان أواخر الثمانينات، وأحداث انتخابات الجزائر آنذاك، ومظاهرات الاحتجاج على ضرب العراق 1990 – 1991. في أفغانستان خرج الروس، لكن «المجاهدين» اصطرعوا على السلطة في البلد الخرب، والعرب من بينهم بدأوا التشاور بشأن نقل «الجهاد» إلى موطن آخر بعد أن «تحررت» أفغانستان. وفي الجزائر فاز الإسلاميون في الانتخابات، ومع ذلك فإن علي بلحاج ظل على إصراره بأن الديمقراطية كفر، وأنه يملك تصورا إلهيا تفصيليا لإقامة الدولة الإسلامية! وفي المظاهرات المليونية ضد ضرب الدوليين للعراق لإخراجه من الكويت، خالط استنكارات الضربة الاستغاثة لإنقاذ الدين، وإقامة الدولة الإسلامية الحامية. ولا حاجة لاستدعاء أحداث التسعينات والعقد الأول من هذا القرن، فهي من الكثرة بحيث تكاد تستعصي على الحصر. وكلها يبرز منها وفيها أمران: استخدام العنف الأعمى ضد مجتمعاتنا ودولنا، وضد الغير (غير المسلم) بداخل العالمين العربي والإسلامي – والأمر الثاني: اعتبار هذا العنف الأسلوب الوحيد لتحقيق أمرين: دفع العدوان الخارجي، وإقامة الخلافة الإسلامية على أنقاض الدول الوطنية التي أنشأها (بزعمهم) الاستعمار وعملاؤه!
منذ البداية وقع العرب في قلب الظاهرة النارية هذه باسم الإسلام. والاستشهاد على هذا الوقوع عادة بعبد الله عزام وأسامة بن لادن و«القاعدة». لكن التأسيس عربي أيضا من خلال سيد قطب وأفكاره حول الجاهلية والحاكمية، والتلاقح بين الإخوان والسلفيين في أفغانستان وقبل أفغانستان. ولا ننسى أيضا أن كل المهاجمين في «غزوة نيويورك وواشنطن» هم من السعوديين والعرب الآخرين. وقد بدت الظاهرة في المرحلة الأولى دفاعية (دفع الصائل)، لكنها منذ اقترانها بإقامة الدولة ما عادت كذلك. وقد اتسعت بعد 11 سبتمبر (أيلول) لتطال شبان الجاليات المهاجرة في جيليها الثاني والثالث.
إننا عندما نتحدث عن الإنكار بعد عقدين ونيف على اندلاع الظاهرة، فإننا نعني به التبرير أو التسويغ، وبالتالي تعليل العجز عن التصرف أو عدم إرادة التصرف، من مثل القول إن الأميركيين هم البادئون بالهجوم، أو أن الإيرانيين هم الذين يتآمرون على السنة بحشد الشيعة العرب ضدهم، أو أن الدول العربية والإسلامية لا تفعل شيئا لصون المصالح. وإنكارات التبرير والتسويغ هذه هي من جانب الإسلاميين الظاهرين أو المستترين الذين لا يشاركون في الهجمات، أو من جانب المثقفين الذين «يكرهون» الإمبريالية، لكنهم لا يترددون في التضامن مع الدواعش أو الميليشيات الإيرانية (عدو داعش رسميا) بحجة الممانعة والمقاومة. أما المقاتلون أنفسهم ومنظروهم فهم لا يترددون في القول إنهم يريدون بـ«الجهاد» دفع العدو، وإقامة الدولة.
إن هذه الموجة المقاتلة والقاتلة إذن نجمت في الأصل عن تحويلات وتحويرات في التصورات والمفاهيم. وهي عملية تتالت فصولها عبر أربعة أو خمسة عقود. وقد جرت لدى السنة والشيعة. بل إن خامنئي ورفسنجاني وخاتمي قالوا لنا جميعا في مناسبات مختلفة، إن «الإخوان» هم الذين هدوهم للأصولية الشيعية التي استولت على الدولة الإيرانية، وشكلت قيادة لهذا الحراك الكبير، وهي ترتئي الهجوم هنا والتكأكؤ هناك، والكمون هنالك. أما الحراك الأصولي السني فهو من دون قادة، ويعتمد على الروح العام والقرارات والاجتهادت الفردية أو اجتهادات المجموعات الصغيرة. فحتى مفهوم الشبكة لا ينطبق عليه تماما. إنه روح عام أطلق هذه الموجة القاتلة المعادية لتقاليد فقه العيش ورؤية العالم لدى الإسلامين التقليدي والإصلاحي. ففي نظر هؤلاء صار التقليديون عاجزين ومن فقهاء السلطان، أما الإصلاحيون فهم علمانيون مستترون! إن خطورة هذا الروح هي في انتشاره الهائل والمنقطع النظير. في أقاصي الأرضي، يفكر شاب بالانضمام إلى القتال في سوريا أو إلى الدولة، فيلتمس الوسائل ويجد نفسه أو حلمه وقد تحقق من دون صعوبات كثيرة. لا يحتاج «المتشدد» السني إلى فتوى عامة للتحشد من خامنئي أو السيستاني، وليس له طموح بمرتب من «حزب الله»، واحتضان آل البيت له في الدنيا والآخرة. إنه عالم يكاد يكون عدميا لدى متطرفي «القاعدة» و«داعش»، حتى لو كانت الدولة هدفا له!
إن المقصود من هذا التشخيص للداء، ليس التهويل، بل التماس أعماق الظاهرة من أجل إمكان مكافحتها أو البحث عن المخارج منها. وبالنظر في هذا التشخيص أو الفهم يتبين أن أصل الظاهرة هو الاعتقاد أن الإسلام دين ودولة. وهذا اعتقاد ظهر خلال العقود القليلة الماضية، ويخالف، بل يعادي الرؤية السنية التقليدية، والتي تعتبر النظام السياسي فرعيا ومصلحيا وتدبيريا ولا علاقة له بأركان الدين. وهكذا فالخروج من الظاهرة في المدى المتوسط يتطلب وعيا حادا بضرورة إسقاط هذا التصور الذي صار عقيدة لدى جمهور واسع. فليس صحيحا أن الإسلام يملك في أصل الاعتقاد لاهوتا سياسيا وآخر اقتصاديا وآخر قانونيا يتعلق بالعلاقات مع سائر صنوف البشر. بل هو اعتقادات وعبادات وأخلاق ومبادئ عامة للفضائل والتعارف والعدل والعيش ضمن جماعة المؤمنين والناس في العالم. انطلاقا من هذا الفهم للدين نحن محتاجون إلى نضالات وسط المخاض الهائل باتجاه النهوض وتحرير المقولات، وتجديد التقليد، وتقوية المؤسسات الدينية للقيام بمهامها في التعليم والفتوى والإرشاد، بالاقتناعات والإجماعات العريقة والمتجددة للاعتقاد وللعيش في العالم. ونحن محتاجون إلى انضباط شديد في التربية الأسرية، والتربية الدينية، واستعادة روح الجماعة وتقاليدها في العبادة والأخلاق وخشية العنف وسفك الدم.
ومصلحتنا اليوم أيضا تتأسس على إخراج الدين من بطن السلطة أو الصراع عليها، حتى على فرض أن الإسلام دين ودولة، وهو ليس كذلك! عندما ذهبت للدراسة بألمانيا عام 1972 كان البابا بنديكتوس لا يزال أستاذا للاهوت الكاثوليكي بجامعة توبنغن. وقد سمعته يقول لطالب كاثوليكي متشدد اعترض على التسالم مع البروتستانت: لقد أدى البروتستانت لنا وللمسيحية بعامة، خدمة جليلة، عندما أخرجونا من الممارسة الإمبراطورية التي كانت سائدة في أوساطنا. وقتها اشتد النواح على الكاثوليكية في سائر الأنحاء، وكأنما هي خسارة كبرى ألا يبقى البابا إمبراطورا! لكننا عندما استعدنا الرشد بالخروج من شراك السلطة الدنيوية، صرنا المرجعية الأخلاقية العليا للعالم!
المصدر: الشرق الأوسط
http://www.aawsat.com