عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي
احتفل العبادي من الموصل بتحريرها من «داعش». وفي الوقت نفسه كان الجنرال سليماني يخطب من طهران، فيتحدث عن الجيش العراقي، وعن «الحشد الشعبي» وجهوده، وعن حسن نصر الله وإنجازاته. أما نصر الله فأثنى على العراقيين ليس لأنهم حرروا الموصل، بل لأنهم استعصوا على الأميركيين، وخالفوا توجيهاتهم، لذلك تحقق التحرير(!). أما التحالف الدولي فاهتمّ بهذه المناسبة ليس بتحرير الموصل فقط، بل وبتحذير العراقيين من ظهور «داعش»-2 إن لم تكن هناك مصالحة وطنية.
هل هناك افتراق بين هذه الأطراف؟ يصعُب تجاهل الفروقات والافتراقات. إنما لا يمكن حتى الآن تقدير المديات. ومن ناحيةٍ أُخرى، لا يمكن اعتبار العبادي فريقاً مستقلاً، فقد كان جهده الأكبر منصباً على عدم ظهور الخلاف بين الطرف الإيراني والتحالف الدولي بزعامة الولايات المتحدة.
لكن الأميركيين كانوا يقصدون من وراء نصائحهم أمرين: الحيلولة دون ظهور مناخ تهجير وقتل يؤدي إلى ظهور تطرف آخَر، وعدم إيصال الخلاف مع الأكراد إلى نقطة اللاعودة، والذي حصل في الأمْرين أنّ الأجواء مهيئة بسبب تصرفات سليماني وحشوده لتسممٍ آخر لا تُدرَك عواقبه حتى الآن، إذ هناك خمسة ملايين مهجَّر عراقي منذ عام 2013. وهناك ألوف قُتلوا أو خُطفوا ومصيرهم غير معروف، وبعض ذلك من تصرفات الجيش والشرطة العراقيين، بيد أنّ معظم التهجير والتقتيل يعود لـ«الحشد الشعبي»، فالأميركيون مُحقُّون لهذه الناحية عندما يحذرون من «داعش»-2. وقد بلغ تسميم الجو مع الأكراد حدَّ إقبالهم على إجراء استفتاء على الاستقلال، وبذلك فالصدامات بين الجيش العراقي (المنتصر) والأكراد جاهزة للاندلاع، ولا يحول دونها غير الأميركيين، فإذا قال نصر الله إنّ العراقيين أحسنوا بعدم اتّباع نصائح الأميركيين، فإنّ مخالفتهم تلك ليست جزءاً من الانتصار، بل من الفشل بسبب تصرفات سليماني وميليشياته تجاه السنة والأكراد.
إنّ الدافع الأول لمجيء الأميركيين إلى العراق وسوريا هو مساندة الأكراد، وهم الذين بدؤوا بمواجهة «داعش» عام 2014. وقد حرروا كردستان ومناطق مجاورة منها كركوك، لكنهم ما استطاعوا حماية سنجار من مليشيا «حزب العمال الكردستاني» الذي اتخذ مواقع فيها بدعمٍ من سليماني، لإزعاج البارزاني وتركيا، واستطراداً إزعاج الأميركيين.
وفي هذا السياق بقيت مشكلة تلعفر ومنطقتها التي يتقدم فيها «الحشد الشعبي». ولا تنحصر دلالات ومصائر تلعفر بوجود اختلاط سكاني طائفي وإثني، بل هي منطقة تقع فيما بين الحدود التركية والسورية وإن تكن المسافات شاسعة. ومنطقة تلعفر تتصل أيضاً بسنجار وصولاً إلى الحدود السورية. لذلك فالمشكلة الأعجل هي محاولات إيران وميليشياتها خلق معابر إلى سوريا. وإدارة ترامب لديها بالعراق أولويتان: صَون المنطقة الكردية، والحيلولة دون الوصول الميليشياوي الإيراني إلى الحدود السورية العراقية الأردنية، وهذا سر انزعاج نصر الله من الأميركيين الذين لولاهم لما استطاع الجيش العراقي ولا «الحشد الشعبي» تحرير الأنبار وصلاح الدين ونينوى. تبدو الإدارة الأميركية مصمِّمة حتى الآن على تقليص النفوذ الإيراني بالعراق وسوريا. والاتفاق الأميركي الروسي بعمّان حوله خلاف: مَنْ الذي حقّق مكاسب أكثر؟ والواقع أنّه تتعذر إعادة إعمار العراق والاستقرار في سوريا إن لم تتراجع الميليشيات الإيرانية.
عندما يريد الروس تحقيق شيء على الأرض، يفعلون ذلك بأنفُسهم، لكنْ يستفيد منه النظامان السوري والإيراني. وقد استمات الإيرانيون والأسد للوصول إلى الحدود الإيرانية وإلى الجولان، فحالت دون ذلك الولايات المتحدة بغاراتها. أما الأميركيون فعندهم الأكراد للتأثير، ويريدون العودة لاستئناس الأتراك وفي العراق وسوريا. في العراق، حول تلعفر وسنجار، وفي سوريا حول الرقة وصولاً إلى الحدود التركية. وعند الأتراك تشمل التهديدات: وصل المناطق الكردية لإقامة الدولة، فحلفاء الولايات المتحدة الأقوياء مختلفون فيما بينهم، ولا يريد أردوغان التعاون مع الأكراد السوريين. بينما يريد الأميركيون خطاً تعاوُنياً بين حلفائهم، ولا يعارض الروس ذلك.
تحرير الموصل واقعة متقدمة، ولولا الانتكاسات الناجمة عن القتل والتهجير، وعن تغريب الأكراد، لكان يمكن لها التأثير في استعادة التوازن إلى المشهد. فإيران التي استفادت من أميركا بالعراق، ومن روسيا بسوريا، تمضي الآن نحو مواجهة الولايات المتحدة. لذلك تنتظر البلدين مشكلاتٌ كبرى إضافية.
المصدر: الاتحاد