خليل علي حيدر
خليل علي حيدر
كاتب كويتي

«الإخوان».. تسييس الإسلام و«تقديس» المرشد!

آراء

كان اغتيال المرشد حسن البنّا في فبراير 1949 كارثة كبرى لجماعة «الإخوان». فكما يقول طارق البشري، «لم تفقد الجماعة باغتيال البنّا منظمها فقط، بل فقدت مفكرها وراسم سياستها». (الحركة السياسية في مصر، ص 368).

والواقع أننا عندما ندرس شخصية البنّا من مختلف الإفادات نجدها شخصية تنظيمية حزبية أكثر منها شخصية مثقف نهضوي منظر، منهمك بالفكر حتى في أعماق الثقافة الإسلامية نفسها. وتدل انطباعات كل من كتب عنه ورافقه من مقربيه، أنه كان يعطي الأولوية لبناء الجماعة وتوسيع نفوذها وتعميق الولاء لأفكارها وشعاراتها والاهتمام الوثيق بتنفيذها في مختلف المجالات والمناطق. وقد جاءت هذه السمة العملية والتنفيذية، التي تنحو تجاه التنظيم والنشاط الحركي على حساب عمق الثقافة وأصالة الفكر والإبداع الأدبي والثقافي والفني، من ملامح جماعات «الإخوان» في كل مكان. وما أن يجد عضو نفسه متعمقاً في أي مجال ثقافي أو إبداعي حتى يرى نفسه على هامش الجماعة في أحيان كثيرة.

خصص أحد أوائل الباحثين العرب الذين اهتموا بدراسة جماعة «الإخوان»، وهو د. إسحاق موسى الحسيني، فصلاً كاملاً من كتابه المعروف «الإخوان المسلمون: كبرى الحركات الإسلامية الحديثة»، بيروت 1952، لدراسة شخصية المرشد حسن البنّا (1906 – 1949). ويلاحظ د. الحسيني «أن البنا لم يشتغل في الدراسات الدينية شارحاً أو مفسراً أو مدافعاً على الطريقة الأزهرية ولم يكن رجل دين بالمعنى الصحيح. وثقافته لم تعدّه لذلك. وقد قصد في كتاباته – من كتب ومقالات – أن تجنب الجدل الديني الذي يخوض غماره رجال الدين عادة».

اهتم البنا بمد نفوذ فهمه للإسلام أفقياً بدلاً من صرف الوقت في تعميقه عمودياً، إن صح التعبير والتشبيه. وحاول أن يمد رؤاه الدينية المدعومة بجهازه الحزبي، إلى مجالات سياسية واجتماعية واقتصادية وعامة وخاصة لا حد لها، في مجتمع يعاني من مشاكل لا حصر لها. وبذلك أرسى في العالم العربي دعائم ما نسميه اليوم بـ «الإسلام السياسي» الحزبي، الذي تتبناه وتقوده جماعات تستخدم «الإسلام»، كما تفهمه، لبسط نفوذها، ليخدم هذا الفهم الديني السياسي المؤدلج بدوره نفوذها الحزبي ومصالحها الحركية.

وعندما التحق بمتصوفة الطريقة الحصافية، لاحظ أن شيخها «لم يكن يسمح للمتعلمين من أتباعه بأن يكثروا الجدل في الخلافيات أو المتشابهات من الأمور أو يرددوا كلام الملاحدة أو الزنادقة أو المبشرين أمام العامة، ويقول لهم اجعلوا هذا في مجالسكم الخاصة تتدارسونه فيما بينكم». (ص 46).

ولا يعني هذا أن البنّا كان مقتصراً في قراءته على كتب دراسته. فالواقع أنه كان شغوفاً بالمطالعة خارج حدود هذه المناهج إلى حد كبير وكان يحفظ الكثير من الشعر، ويطالع في مكتبة والده مختلف الكتب الدينية والأدب والقصص الشعبي وإن تأثر أكثر ما تأثر بكتب التصوف في المراحل المبكرة، تليها القصص الحماسية والجهادية وقصص السيرة. «كما تأثر بما كتبه السيد رشيد رضا وفريد وجدي ومحب الدين الخطيب وأضرابهم من السلفيين أصحاب الأقلام الصارمة». (د. الحسيني، ص 49).

ولعلّ أشق عمل اضطلع به البنّا واقتضى من تركيز جميع مواهبه وكشف بالتالي عن ذكائه، يقول د. الحسيني، هو «محاولته في جميع خطبه ومقالاته أن يثبت أن الإسلام عُني بجميع ما عُنيت به الحركات السياسية المعاصرة كالنازية والشيوعية». (ص 54).

ويحسن بنا قبل أن نواصل قراءة ما كتبه البشري عن مصير جماعة الإخوان بعد اغتيال المرشد، أن نواصل الحديث وعرض بعض الاقتباسات عن حسن البنّا من كتاب آخر بعنوان «الإمام الشهيد حسن البنّا بأقلام تلامذته ومعاصريه»، من إعداد أحد الإخوان المعروفين وهو جابر رزق، 1990، وقد جمع في الكتاب شهادات نحو أربعين شخصية تتحدّث عن المرشد.

وقد لفتت نظري من بينها انطباعات عبد الحكيم عابدين الذي كان متزوجاً بأخت المرشد، وكان كذلك سكرتير الجماعة، وقد توفي عام 1977. وهو يؤكد الجانب العملي والحركي في شخصية البنّا فيقول: «يجمع كتاب السِّيَر على أن عمرو رضي الله عنه حينما دفع بأصحابه إلى الفتح وأخرج المسلمين في فجاج الأرض كان يرمي، مع قصد الفتح، إلى صرف المسلمين عن مجالس المناقشة والجدال، إيماناً منه بأن الرجل إذا فرغ من العمل التفت إلى الكلام، ومتى كان الكلام مشغلة الجماعة كثرت فيها المذاهب، وتشعبت في المسألة الواحدة الآراء، ونجم عن ذلك تعرض كيان الجماعة للاقتتال والانهيار. وبهذا المعنى الرفيع أخذ البنّا. فكان يخلق لتلاميذه ميادين العمل ويبتكر لهم من ضروب الواجب ما يجعل إلمامهم بالمناقشات وتناظرهم حتى في مسائل العلم – يقصد ربما العلوم الدينية – أمراً يسيراً. فعلى الأخ كل يوم فوق أعماله الخاصة أن يقرأ وِرْداً ولو قليلاً من القرآن، وأن يردِّد بعض المأثور من الدعاء، وأن يزور شعبته، وأن يجتمع مع مندوبي الشُّعَب الأخرى في مركز جهاد، وأن يجتمع مع مندوبي مراكز الجهاد في مكتب إداري، وأن يسعى غير مرة إلى المركز العام، وأن يسافر إلى بعض الأقاليم عند اقتضاء الأحوال، وأن يزور بيوت المنكوبين في الدعوة، وأن ينهض للخدمة العامة في كل ميدان، وأخيراً أن يجلس إلى نفسه لحظات قبل النوم ليحاسبها على عمل النهار. فأي جانب بقي له من الوقت يستطيع أن يستجيب فيه لشهوة الجدال؟» (ص 102).

ويقول الأستاذ سعيد رمضان، أحد قادة «الإخوان» وزوج ابنة المرشد، ووالد الداعية الحالي في أوروبا طارق رمضان:

«كان حسن البنّا عقلاً هائلاً، وروحاً موصولاً بالسر الأعلى لا يفتر عن ذكر الله، كان قمة شامخة فيها العلو وفيها الثبات، وفيها قوة الجبل، كان موفقاً لا يخطئ الوجهة، كان حلواً جميلاً رائعاً، ملأ قلوبنا بحب الله، وأشعل صدورنا بحب الإسلام، وصهرنا في بوتقة طاهرة لا تشوبها شائبة». (ص 123).

وبالغ أحد قدامى الإخوان «الأستاذ أمين إسماعيل» بعض الشيء، وكان يعمل صحفياً في الجريدة اليومية، فكتب عام 1951 في مجلة «الدعوة» يمجد المرشد ويكشف المؤامرات التي تعرض لها .. إلى أن قال:

«حسب له «هتلر» حسابه.. وحسب له «موسوليني» حسابه.. وحسب له «ستالين» حسابه.. وحسبت له «بريطانيا» حسابها.. وحسبت له «فرنسا» حسابها.. وحاولوا جميعاً أن يرتموا على أقدام «المدرس» الفقير الزاهد ليتصلوا به… ولكنه كان لا يتصل إلا بالله والله أعز وأقوى من ألمانيا وإيطاليا وروسيا وبريطانيا وفرنسا مجتمعين ومنفردين». (ص 154). وقد نميل إلى تصديق رُبع هذا الكلام، ولكن حتى الربع كثير!

المصدر: الإتحاد