جمال بنون
جمال بنون
إعلامي وكاتب اقتصادي

«التصحيح»… أفسد نوم السعوديين

آراء

هل تعرفون الموظف الذي يمضي أشهراً طويلة مناوباً ليلاً، وحينما ينقل إلى العمل نهاراً يواجه بعض الاضطرابات في النوم وعدم انتظام في جدول المواعيد، ويحتاج إلى بعض الوقت حتى يتكيف مع وضعه الجديد؟ هذا بالتحديد ما يحدث للسعوديين بعد انتهاء مهلة التصحيح وبدء الحملات التفتيشية، والسبب أن السعودية بطبقاتها وفئاتها كافة تعودت منذ عقود أن تعيش في فوضى في كل شيء، وكان أكبر سوق للفوضى هو سوق العمل والتستر التجاري، ومنها كان الناس يعيشون ويقتاتون، وأكثر الناس المتضررين من عملية التصحيح أولئك الذين انقطعت عنهم سبل الكسب غير المشروع الذين كانوا يكسبون أموالاً طائلة من هذه العملية، ابتداء من باعة العربات المتجولة إلى أصحاب البقالات، ومروراً بمؤسسات متوسطة وصغيرة وانتهاءً ببيع التأشيرات، وكل هذه منتجات مربحة بالنسبة إلى السعوديين، كان يحصل على مبالغ مستقطعة، حتى إن بعض المقيمين بدأ يروج أن لديه «تأشيرة حرة»، ويقصد بذلك أنه يستطيع أن يعمل في أي مكان وأي مؤسسة أو شركة، من دون الحاجة إلى موافقة الكفيل أو اعتراضه، حتى بلغ الأمر أن الكثير من العمال يدخلون البلاد بتأشيرات عمل من دون أن يعلم عنهم كفلاؤهم، وتعمد الكثير من الشركات على توظيف عمالة لديها إقامة نظامية وهو ما يعرف بالعمل لدى غير الكفيل، وهذه الظاهرة انتشرت في شكل لافت خلال العقود الماضية، وهذه الطريقة أسهمت في خفض أو تقليص كلفة التشغيل للعمالة الذين يعملون تحت كفالة شركاتهم. كيف؟

من المعروف أن عقود العمل للتأشيرات من الخارج تلزم الكفيل بمنح العامل تذكرة سفر كل عام وصرف بدل سكن وتأمين طبي، فضلاً عن صرف مستحقاته في نهاية الخدمة، وهذه العملية مكلفة للشركات والمؤسسات، كما أنها تعيق تحرك العامل والانتقال من شركة إلى أخرى، وهذه الطريقة تعتبر مريحة للشركات حينما تتعاقد مع عمال ليسوا على كفالتها، فهي لا تحتاج إلى دفع كل تلك المصروفات التي يتطلب دفعها فيما لو كان العامل على كفالتهم، وبذلك فهي كانت مريحة للطرفين للعامل وأيضاً للشركات.

والأمر الآخر أن الذي كان مستمتعاً بهذه الطريقة أصحاب التأشيرات الضخمة الذين كانوا يحصلون عليها كهِبَات من أجل تحسين أوضاعهم في مقابل بيعها، ويهيمون في الشوارع والطرقات على سبيل المثال حينما تحصل إحدى الشركات أو المؤسسات على 1000 تأشيرة وتباع بقيمة 12 ألف ريال للتأشيرة الواحدة، هذا يعني أن 12 مليون ريال دخلت في جيب هذا المستفيد، وفجأة تحول إلى «مليونير» سعودي جديد، مع أنه لم يفعل شيئاً سوى أنه استطاع الحصول على تأشيرات عمل بواسطته ونفوذه، وهؤلاء سيصبحون مصدر دخل سنوي لهذا الثري الذي أصبح رجل أعمال، إذا افترضنا أن كلاً منهم سيدفع 3000 ريال سنوياً، هذا يعني أن الرقم سيتضاعف إلى 36 مليون ريال سنوياً، فبالله عليكم: هل هذا يهمه مصلحة البلد والسعودة والحفاظ على الأمن الاجتماعي والاقتصادي؟ وهذه الطريقة أفرزت لنا أحواشاً وبيوتاً عشوائية وتجارة وهمية وترويجاً لسلع ومنتجات مقلدة وأحواشاً لبيع المواد الغذائية المنتهية الصلاحية، وإفساد سوق العمل والاقتصاد السعودي بمعلومات وهمية عن حركة الاقتصاد، وساعدت في احتكار بعض الخدمات والسلع من بعض الجنسيات والتحكم في أسعارها.

«نعم»، كانت السوق السعودية تكتظ بعمالة وافدة، إنما بأرقام غير حقيقية لسوق العمل، 70 في المئة من هذه العمالة كانت تعمل لحسابها الخاص، فقط 30 في المئة الذين كانوا منضبطين بعمل لدى شركاتهم ومؤسساتهم. من كان يصدق أن السعودية كان يكتظ فيها نحو 15 مليون وافد من جنسيات مختلفة، في بلد 80 في المئة من شبانه الخريجين من الجامعات لا يجدون وظائف ولا يستطيعون فتح محال تجارية، وأيضاً في بلد 70 في المئة من مشاريعه المعلنة وهمية وغير حقيقية، فهي تكتب من أجل أن تنشر في الصحف وأمام الرأي العام، بينما في الواقع لا توجد أصلاً مشاريع، إضافة إلى أن معظم المشاريع التي تعتمد، يتم سحبها من مقاولين أسندت لهم هذه المشاريع لخلافات مع الجهة التي اعتمدت المشروع أو أن وزارة المالية لم تعتمد هذه الشركات. فيتوقف المشروع في بداياته.

في خطوة التصحيح كان لا بد للجهات الأمنية من أن تتحرك، مع أنها كانت هي السبب في تفشي هذه الظاهرة، حينما أوقفت الرقابة والتفتيش، وظهرت على السطح قضايا الرشوة، إنما الصمت الطويل لهذه الجهات وضع المجتمع السعودي أمام خيار صعب، إما الاستمرار بالاقتصاد الوهمي وبذلك نضر البلد أمنياً واجتماعياً واقتصادياً، ونحرم أبناءنا وبناتنا من الاعتماد على أنفسهم في تكوين نضجهم، ونبقى على ما نحن عليه، أو يتحمل كل منا مسؤوليته أفراداً وشركات ومؤسسات وأيضاً جهات حكومية ورقابية في تطبيق القانون والأنظمة من دون محاباة أو مجاملة لمنصب وأيضاً الصدقية لدى الجهات الحكومية في تطبيق القانون بعدالة، وليس التراخي والتهاون أو اختراع أو تحايل بطريقة وأخرى بحيث يعيد الخلل الذي كان موجوداً إنما هو مغلف نظامياً، فكأنما لم نصنع شيئاً.

التفاعل مع التصحيح ليس مسؤولية الجهات الأمنية فقط، إنما مسؤولية الجميع من أفراد المجتمع، وعلى الجهات الأخرى مراقبة ومتابعة من يحاول العبث باستقرار هذه البلاد بوضع عراقيل لإفشال مشروع التصحيح، سواء بزعم هروب عمال أم احتجاجهم وتوقفهم عن العمل أم غياب الخبرات المهنية، من أجل التأثير في أصحاب القرار وثنيهم عن تنفيذ خطة التصحيح. أية خطوة لإعادة الوضع عما كان عليه في السابق بطريقة أو أخرى سيدخل اقتصاد البلاد في دوامة تكون نتائجها سلبية وربما تنعدم الثقة، وقد نصبح أكبر سوق للاقتصاد الوهمي.

المصدر: صحيفة الحياة