العنف الأسري.. ثقافة أم مشكلة طارئة؟

آراء

متى يتم التعرف على أن المشكلة المعينة، التي يواجهها مجتمع ما، هي مشكلة ثقافية وليست بطارئة عليه، أم مشكلة طارئة عليه وليست جزءا من ثقافته؟ ولماذا يجب التعرف على المشكلة، هل هي طارئة على المجتمع أم جزء من ثقافته؟ إذا حدثت مشكلة ما أو جريمة ما، في مجتمع ما، ولم يتم التصدي لها بالقوة التي تستحقها فهي نابعة من ثقافته، وليست طارئة عليه. أما إذا تصدى لها بالزخم والحزم والقوة التي تستحقها فهي طارئة عليه وليست جزءا من ثقافته وذلك كونها هزت ضمير المجتمع الذي لم يعتد عليها، وعليه لم ولن يتقبلها، أو يتراخى أمامها.

وإذا تمت دراسة المشكلة وتم تحديد نوعها، هل هي من فصيلة المشاكل الطارئة أم من فصيلة المشاكل المسنودة ثقافياً؛ هنا يتم التعرف على المشكلة ووضع الحلول القصيرة أو الطويلة الأمد للقضاء عليها، أو على أقل تقدير محاصرتها وعدم تكرارها. المشكلة الطارئة تحتاج فقط إلى حل قصير المدى، وذلك عن طريق الحسم والحزم الأمني وإنزال العقوبة الرادعة على محدثها، وتسليط الضوء على جوانبها من ناحية لماذا وكيف حدثت؟ وسبل تفاديها حتى لا تتكرر. أما عندما يتم التعرف على المشكلة وتحديد أسبابها، ويتم التأكد من أن لها أسبابا وجذورا ثقافية؛ فهنا يتم التوقف عندها ملياً، ويشترك في حلها، ليس فقط المؤسسات الأمنية والقضائية والتشريعية مع أهميتها، ولكن يشترك في محاربتها أيضاً مؤسسات التربية والتعليم والمؤسسات الدينية والإعلام بجميع وسائطه، ووسائله ومؤسسات البحوث والدراسات النفسية والاجتماعية والمراكز الصحية، ويتم إطلاق حملات توعوية مكثفة تتولاها المؤسسات الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني تهدف لمحاصرة المشكلة الآن من أجل القضاء عليها مستقبلاً.

عندما تحدث جريمة ما، في مجتمع ما، كيف نتعرف على أن المجتمع قد أولاها اهتمامه أم لم يولها اهتمامه؟ ببساطة عندما تتحول قضية أو جريمة ما، إلى رأي عام وتتصدر نشرات أخباره، المرئية والمسموعة والمقروءة والرقمية كذلك، وتتفاعل معها جميع مؤسساته التشريعية والقضائية والتنفيذية، وتتم متابعتها وتغطيتها من أول ما حدثت حتى نهايتها؛ هنا يصبح المجتمع قد أولاها اهتمامه، ونعرف أنها هزت ضميره، وحزم أمره للتصدي لها. أما إذا أصبحت لديه خبرا ينشر هنا أو هناك، وتعليقا على استحياء من هنا أو هناك، مع فظاعة الجرم؛ فقطعاً نعرف أن المجتمع لم ولن يتصدى لمثلها بحزم، كونها لم تهز ضميره، حيث ما لا يهز ضمير أي مجتمع، هو جزء من المباح أو المسكوت عنه في ثقافته. فعلى سبيل المثال، عندما قتل رجل زوجته، دهساً لها بالسيارة عندما نزلت من سيارته لتدخل بيت أهلها، وسحب جسدها لمسافة 700 متر، وعاود ليدهسها بعجلات سيارته أكثر من مرة ذهاباً وإياباً، حتى قطع جسدها إرباً إرباً؛ لم تهز الحادثة المجتمع لدينا بما فيه الكفاية، أو تهز ضميره كما يجب؛ لنستطيع القول إن هذه مشكلة طارئة عليه. ولكن شبه سكوته دليل على تواطئه مع الجرم، مع أنه في الشريعة الإسلامية يعد مثل هذا النوع من القتل هو قتل غيلة وتمثيل؛ لا يمكن اسبتدال القصاص فيه بالدية أو العفو، حتى من أهل الضحية.

أي أن الشرع الإسلامي جعل من نوع القتل في الجريمة أعلاه من أفظع أنواع الجرائم، التي من الممكن أن ترتكب، بحق أي إنسان، ناهيك عن الزوجة؛ ونحن مجتمع نعتز ونفتخر بأننا نحكم ونطبق الشريعة الإسلامية؛ فلماذا لم يعتبرها مجتمعنا كذلك؟! هنا يرجع شبه سكوت مجتمعنا عن مثل هذه الجريمة وتواطئه بالسكوت عنها وأمثالها، وخاصة التي ترتكب ضد الزوجات أو الأولاد والبنات إلى كونها من المباح، أو المسكوت عنه في ثقافته. تحدثت أنا وزميل كاتب بالتحديد عن هذه الجريمة الشنعاء، وقت حدوثها، فقال لي إن الجريمة قد وقعت في الحي الذي يسكن فيه. وأخبرني بأن جميع سكان الحي لا يتحدثون عن الجريمة وكأنها لم تحدث في حيهم، وإنما في البرازيل. هنا سألت زميلي، إذاً لماذا أنت لا تكتب عن الجريمة بما أنك تعرف تفاصيلها، وتستطيع تقصي ما خفي منها؟ فنظر إلي وقال: عندما تحدث جريمة ضرب مبرح أو حتى قتل ضد فتاة أو امرأة من محرمها، فالمجتمع يذهب تفكيره مباشرة إلى أن المعتدى عليها قد ارتكبت جرما أشنع مما ارتكب ضدها؛ ولذلك فالمجتمع يسكت عن الاعتداء على الضحية، بسبب عدم تقليب المواجع على المعتدي. أي أن المرأة الضحية سواء بالاعتداء عليها بالضرب أو حتى القتل؛ تكون هي المدانة أيضاً، أي لا يكفيها كونها ضحية ولكن هي مدانة كذلك، ويكون المعتدي بريئا ويتم التعاطف معه بالسكوت عن جريمته، حتى لا تقلب أوجاعه.

أي أنه لا يأتي على بال المجتمع أن المعتدي هو مجرم أو مريض نفسيا، ويذهب تفكيره مباشرة لإدانة الضحية، وهكذا يتم تبرير جرمه بالسكوت عنه، وهنا يعتبر السكوت علامة الرضا. تقول الناشطة الحقوقية، في مجال مكافحة العنف الأسري، الزميلة الرائعة الدكتورة سهيلة زين العابدين؛ إن المجتمع بما في ذلك بعض من ينتمون للمؤسسة القضائية، يعتمدون على نصوص دينية ضعيفة أو موضوعة، أو حتى يقومون بلي أعناق بعض النصوص لتتواءم مع تبريرهم لتخفيف العقاب عن المعتدي على الزوجة أو الابن أو الابنة، حتى ولو كانوا أطفالاً.

إذاً فهكذا يستطيع المجتمع تطويع حتى الدين ليتواءم مع ثقافته العنفية، من ناحية تبريرها وإلباسها لباساً شرعياً؛ ومن هنا نتأكد أن العنف الأسري لدينا، هو مشكلة ليست بطارئة على مجتمعنا وإنما هي مشكلة ثقافية، نابعة من ثقافته. وعليه فالقضاء على المشكلة ليس بالأمر اليسير ولا السهل، ولا يعتمد على مؤسسة واحدة أو اثنتين، وإنما أغلب مؤسساته إن لم نقل جميعها الرسمية منها والأهلية، ومواصلة عقد المؤتمرات والندوات من أجل الحد منها في الزمن الحاضر والقضاء عليها في المستقبل القريب، كون المشكلة متجذرة في ثقافة المجتمع.

يوم الاثنين الماضي، تناول الزميل الإعلامي الكبير داود الشريان في برنامجه “الثامنة” العنف الأسري، مع كونه قد عرض أكثر من حلقة تناقش نفس الموضوع.

ولكن البرنامج نفسه قد تواطأ على إخفاء أسماء المعنفات، وذلك فقط بذكر أسمائهن الأولى مثل “دليل” أو أم فلان أو علان؛ كما لم يذكر أسماء المعتدين عليهن؛ وهذا دليل على أن مناقشة الموضوع ما زال تابو لدينا، يتم التحايل لعرضه. ولكن الجديد أن المشاهدين تعاطفوا كثيراً مع المعنفات، لدرجة أن بعضهم غير المحطة، لعدم تحملهم سماع المشكلة ومتابعة الحلقة حتى نهايتها.

وهذا مؤشر على أن مجتمعنا الآن جاهز لمناقشة مشكلة العنف الأسري، حيث أخذت القضية تهز ضميره ووجدانه؛ وعلى هذا الأساس، يجب أن تتحرك جميع المؤسسات الرسمية والأهلية، بكل ما أوتيت من شجاعة وقوة للانقضاض على المشكلة بلا هوادة أو تساهل، وذلك بتنقية ثقافتنا أولاً منها، وتخليص مجتمعنا من شرورها.

المصدر: الوطن أون لاين