محمد فاضل العبيدلي
محمد فاضل العبيدلي
عمل محرراً في قسم الشؤون المحلية بصحيفة "أخبار الخليج" البحرينية، ثم محرراً في قسم الديسك ومحرراً للشؤون الخارجية مسؤولاً عن التغطيات الخارجية. وأصبح رئيساً لقسم الشؤون المحلية، ثم رئيساً لقسم الشؤون العربية والدولية ثم نائباً لمدير التحرير في صحيفة "الايام" البحرينية، ثم إنتقل للعمل مراسلاً لوكالة الصحافة الفرنسية (أ.ف.ب) كما عمل محرراً في لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية.

المعلومة والدعاية.. ومن يهتم؟

آراء

كانت صفحات الرأي إحدى المسؤوليات التي تولّيتها في آخر صحيفة شاركت في تأسيسها في البحرين عام 2005.

وقبل تدشين الصحيفة، طلبت من الكتّاب المساهمين أن يضمّنوا مقالاتهم هوامش خصوصاً إذا ما كان هناك إدعاء من نوع ما في المقال أو وجهة نظر حول آخرين أو طرف آخر أياً كان، كأن يكتب أحدهم مثلاً «وكان الوزير/فلان قد أعلن في وقت سابق…إلخ». هنا كان مطلوباً من كاتب المقال أن يدعم ما يقوله بالمصدر ويثبته في قائمة الهوامش أسفل المقال.

وغني عن القول إن مهمتنا كانت التأكّد من صحّة ذلك المصدر والنص المقتبس عنه. وكانت «الوقت» بهذا التقليد المهني، الصحيفة العربية الوحيدة التي تنشر المقالات بهوامش، بل وحتى التحقيقات الصحافية.

لم يكن وضع الهوامش أمراً معتاداً ولا حتى مفهوماً لا للكتّاب ولا حتى للغالبية العظمى من الصحافيين، بل إن أحد الكتّاب وهو أكاديمي مخضرم مازحني معلّقاً: «في هذه الحالة أطالب بمكافأة أعلى لأن المقال مع الهوامش تحول إلى بحث..».

هذا بالضبط كان أحد الأهداف الرئيسية لذلك التقليد: أن يتحول المقال إلى بحث مصغّر مدعوم بالمصادر وأن يكون ثمرة تحليل وتأمّل وليس مجرد تعبير عن وجهة نظر. أما صحّة المقاربة هنا فقد ثبتت فيما بعد في حدث عرضي لكنه ذو مغزى.

فلقد نشر أحدهم على شبكة الانترنت استقصاءً لملاحقة السرقات الأدبية. أما قائمة الكتّاب ممن توصل لهم هذا الشخص ووضع فقرات من مقالات لهم مع فقرات من المقالات الأصلية التي نقلوا عنها فقرات بالنص، فقد توزّعت على غالب الصحف الأخرى ما عدا صحيفة «الوقت».

لكن أبرز ردود الفعل حيال ذلك الاستقصاء تلخّصت في كلمتين ذات أثر مدمر لا يضاهى: «ومن يهتم؟». جواب سمعته أيضاً من بعض الكتاب الذي طلبنا منهم وضع الهوامش في مقالاتهم بل ومن بعض المسؤولين في الصحيفة. هؤلاء والصحافيون وغيرهم من خارج الصحيفة نظروا منذ البداية لمسألة وضع الهوامش أسفل المقال، باعتبارها نوعاً من «الموضة» أو «التحذلق».

في أحسن الأحوال، فإن هذه ردود فعل تكشف خاصية ذهنية لدى العرب وهي نوع من العداء أو النفور من المعلومات وميل – يبدو فطرياً أحياناً- للدعاية.

لهذا فإن الكتاب النجوم والمفضلين لدى الجمهور ليسوا أولئك الذين يبنون وجهات نظرهم بناء على معلومات واستقراء وتحليل بل أولئك الميالين إلى «الدعاية» بكل عناصرها: التهويل، السخرية في غير موضعها والحط من شأن الخصوم، التخويف والمبالغات. أي أولئك الذين يملكون مهارات «كلامية» وليس معلومات ومهارات تحليلية.

هنا لربما يتعين أن نتذكر الكاتب البريطاني ألدوس هوكسلي الذي قال مرة إن «بإمكان كذبة مثيرة التغطية على حقيقة مملة». هوكسلي في مقولته تلك يتحدث عن أثر الدعاية بالتأكيد وكيف أن الناس عموماً يميلون لتصديق الدعاية عوضاً عن حقيقة تبدو مملة دوماً.

لكن تلك كانت عبقرية بول جوزيف غوبلز وزير الدعاية النازي الذي أرسى ذلك المبدأ الذي مازال يمارس مفعوله الساحر حتى يومنا هذا حتى في الديمقراطيات العريقة: «الدعاية الناجحة لابد أن تتضمن نصف الحقيقة» و«تعتمد على التكرار».

هنا يبرز نموذج يمثل تطبيقاً فعالاً لمبادئ غوبلز في الدعاية هي الحرب النفسية الإسرائيلية وكيف أثرت من خلالها في صياغة قناعات بعضها لايزال باقياً للأسف في أوساط الفلسطينيين والعرب.

ففي حربه الشرسة ضد الفلسطينيين، اعتمد «الموساد» الإسرائيلي على المعلومات التي يعرفها عن الفلسطينيين وعن الراحل ياسر عرفات ومنظمة التحرير واستخدمها في حربه النفسية في تلطيخ سمعة عرفات والقادة الآخرين، أبرز مثال هنا كذبة «الثروة الطائلة» التي يمتلكها عرفات.

فالموساد كان يعرف جيداً أن عرفات يدير أموال منظمة التحرير الفلسطينية، لكن الموساد حور المعلومة باتجاه آخر بإضافة كذبة أنه يملك هذه الأموال.

أما باقي المهمة فقد تكفل بها العرب وهي التقاط الكذبة وتصديقها وتكرارها حتى أصبحت حقيقة. لكن من أعاد إنتاج تلك الكذبة لم يكن البسطاء، بل مثقفون وصحافيون وكتاب، أي من يطلق عليهم «صنّاع الرأي العام». تلقفوها من دون تمحيص وأعادوا إنتاجها فأصبحت بحكم التكرار كأنها حقيقة.

والتساؤل عن سر هذه اللهفة في تقبل الدعاية، سيقودنا في الغالب إلى العواطف والأحكام المسبقة -وبقليل مما سيبدو كلاماً قاسياً- أضيف: مع شيء من البلادة الذهنية. البلادة التي تعبر عنها بشكل جلي ردة الفعل المتكررة دوماً: «ومن يهتم؟». لا يتعلق الأمر بالكيفية التي نقنع فيها الجمهور بوجهات نظرنا وكيف ندير جدلنا إن بالمعلومات أو الألاعيب الكلامية.

ثمة مشكلة لدى العرب مع ذاكرتهم التي تبدو وكأنها تعمل يوماً بيوم فقط. فتجاهل التاريخ، يجعل التعاطي مع قضايانا الراهنة يبدو معزولاً دوماً عن التاريخ خصوصاً في الجدل السياسي.سأضيف هنا أن المشكلة تعود في جزء منها إلى الانتقائية التي نمارسها حيال التاريخ لأننا نقرأه بعواطفنا وانحيازاتنا المسبقة لا بمنهجيات علمية. نقطة ضعفنا هي «المعلومات والتوثيق».

المصدر: البيان
http://www.albayan.ae/opinions/articles/2015-04-14-1.2353295