عبدالله فدعق
عبدالله فدعق
داعية إسلامي من السعودية

المكرر يحلو

آراء

بعد جلسة مطولة مع متخصصين في مرض اضطراب الهوية الجنسية، الذي أفردت عنه مقالا كاملا قبل ثلاثة أشهر، وعنوانه “المضطربون جنسيا ليسوا شواذا”، وصل الحضور من شرعيين وأطباء إلى أن مفتاح مصير المرضى بهذا المرض عند الأطباء النفسيين، فهم من يقرر بداية أن دعاوى المضطربين صادقة، أو غير ذلك، ثم انتهى الشرعيون إلى سؤال في غاية الأهمية وهو: هل يعتد بالأمور النفسية في الأحكام الشرعية؟.. الحقيقة أنه راق لي جدا السؤال المُنتهى إليه في الجلسة، وبشكل استباقي أخذت أخطط للكتابة عنه، ليستعان به مستقبلا، وزادت قناعتي في أهمية أن يتناول الفقهاء المعاصرون هذا الأمر بصورة أكثر توسعا، لا سيما أن الفقهاء المتقدمين لم يذكروا المرض النفسي في مؤلفاتهم القديمة، إنما عرضوا للمجنون، والمعتوه، والصغير غير المميز، والسكران، والغضبان، والمكره، وكلها وإن كانت أمورا نفسية، لكنها ليست من الأمراض النفسية..

لا شك أن الكل متفق على أن الإنسان متكون من أعضاء ومشاعر، وهذه الأخيرة كما تقدم معنا مفتاحها عند الأطباء في الدرجة الأولى، فهم وحدهم من يستطيع أن يفرق بين الرغبة الكاذبة، والحقيقة اللازمة.. الهوية الجنسية ـ يا فقهاء الدين ـ غير ثابتة بمجرد الولادة، بل إنها عرضة للتغير بسبب المؤثرات الخارجية من تربية وبيئة اجتماعية وثقافية وغيرها، فالتلقي والتطبع والتأثر بعوامل التربية والبيئة الاجتماعية تؤثر فيها، وعوامل التربية والبيئة متداخلة مع العوامل الجينية، مما يصعب معه تمييز المؤثر الحقيقي والرئيسي في اضطراب الهوية الجنسية، خاصة أنه لا يمكن ضبط التأثير الجنيني على الهوية الجنسية.. المريض الذي يعاني من اضطراب الهوية الجنسية ـ يا فقهاء الدين ـ واقع تحت ضغط قهري قوي، وقد تتطور حالته إلى الضيق والاكتئاب والانتحار، وأخشى أن يعتمد على تبريركم بأن الله قدر عليه حالته في التنصل من أي جريمة قد يرتكبها.. لا يقول عاقل ـ يا فقهاء الدين ـ إن دعوى اضطراب الهوية الجنسية تقبل من مدعيها على الفور، فأي حالة من هذا النوع لا بد وأن تعرض على الطبيب النفسي للتشخيص ومعرفة ظروف النشأة والتربية، وكيفية تعامل الأسرة مع المريض ودوافعه، لمدة لا تقل عن عامين على الأقل، كل ذلك بغرض استبعاد أي شخصية متداخلة مع نفسها، وبغرض التوفيق اللازم بين الجنسين النفسي والعضوي، فإن تحقق النجاح، فبها ونعمت ـ نعمة خطأ لغوي ـ وإن لم يتحقق النجاح فسيطلب من المريض ولمدة عامين آخرين التعامل والتعايش مع مجتمعه وفقا لجنسه العقلي، وهناك مرحلة إجراء الفحص الطبي الظاهري للأعضاء التناسلية، وكذلك الأعراض الظاهرية للهرمونات الجنسية، والشكل الخارجي للجسم، وفحص الكروموسومات والأشعات بالموجات فوق الصوتية، وأشعة الرنين المغناطيسي، لتحديد الأعضاء التناسلية الداخلية، وغير ذلك من اللوازم.

مرة أخرى.. ليس صعبا معرفة أثر الأمور النفسية على الأحكام الفقهية إذا ما طبقت عليها قواعد ومصادر الشريعة، ومن أهمها القياس، وما على فقهاء الدين إلا القيام بعد تشخيص الأطباء النفسيين بقياس المريض النفسي على أقرب الحالات المشابهة لها، والمذكورة في كتب الفقه، فقد تشبه الحالة فاقد العقل، أو الصغير غير المميز، أو العاقل غير المدرك لمصلحته ونحو ذلك، وكلها أمور تترتب عليها أحكام مبسوطة في الكتب الشرعية، وهذا لن يسهل إلا بالشراكة البحثية الجادة بين مراكز البحوث المتخصصة في الدراسات الشرعية والطب النفسي.

المصدر: الوطن أون لاين