رضوان السيد
رضوان السيد
عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي

بين الانسحاب والانسحاب وضياع البلاد!

آراء

شهدت قبل أيام ندوة على «العربية» جمعت وزراء خارجية إيران وتركيا والأردن وخبراء استراتيجيين عربا وأجانب. وفوجئت مفاجأة إيجابية بدعوة وزير الخارجية الإيراني ظريف لانسحاب كل القوى الأجنبية من سوريا. بيد أن المفاجأة لم تكتمل لأنه ما لبث أن أدلى برأيين متناقضين في سياق واحد. قال من جهة إن حزب الله اتخذ قرارا ذاتيا بالتدخل في سوريا ولا شأن لإيران بذلك، ثم إن من حق الحزب التدخل دفاعا عن المقدسات الشيعية! وهنا انتقلت مفاجأتي ومفاجأة المشاهدين إلى الوزير التركي الذي كان يؤكد على العلاقات الممتازة بين إيران وتركيا منذ 350 عاما، لكنه لا يستطيع الموافقة على كلام الوزير الإيراني بشأن المزارات والتدخل لحمايتها، وذلك لأن مزار السيدة زينب ليس مزارا شيعيا، والسنة مثل الشيعة في احترامه، وهم الذين بنوه في الأصل، والشعب والدولة في سوريا، وكلنا معهم في الرعاية والحماية، وإلا فلو كان من حق كل أحد يعتقد أن مقدساته تتعرض للانتهاك القيام بتدخل عسكري، لكان من حق المسيحيين الروس والغربيين إرسال الجيوش إلى سوريا، ثم إن قوات الأسد دمرت 1500 مسجد، ومن ضمنها مسجد خالد بن الوليد بحمص، فهل يتدخل أهل السنة من تركيا وغيرها بإرسال الجيوش لحماية المقدسات؟! الكلام العاقل هو ما قاله الزميل ظريف، أولا: انسحاب سائر الأطراف الخارجية من سوريا، ودخول السوريين في مرحلة انتقالية توقف القتل، وتعيد ترميم العلاقات بين الناس والتي دمرها الحل العسكري الذي انتهجه النظام طوال ثلاث سنوات!

إن الظريف أن «الانسحاب» لا يجري الحديث عنه في الندوات، بل في اجتماعات الطرفين السوريين في «جنيف 2» أيضا، لكنه في «جنيف 2»: انسحاب السوريين من بلادهم! ففي الأيام الثلاثة الأولى دار الحديث عن الإنسانيات المتعلقة بإدخال الأغذية والأدوية إلى المحاصرين بحمص، والنظر في شأن المعتقلين عند النظام والمعارضة. وبدلا من أن ينتهي التفاوض بإدخال المساعدة إلى الحمصيين، صار المطلوب والمرغوب: إخراج النساء والأطفال من أحياء حمص القديمة المحاصرة، ليضافوا إلى عشرة ملايين مهجر بالداخل والخارج! وهذا منطق عجيب أفهم أن تفكر فيه المعارضة للحد من هول الخسائر في بعض فئات الشعب السوري، لكن ما الذي يفكر فيه الدوليون والنظام بالفعل؟ هل كان الذهاب إلى التفاوض بجنيف من أجل حل الأزمة وعودة المهجرين، أم هو تفاوض على وقف للنار يسمح بتهجير بقية أهل حمص القديمة منها؟!

إن هذه الشكوك والشكاوى ليست متأتية من الهجاس تجاه النظام السوري، فهو تحصيل حاصل، لكنها متأتية من «جنيف 2» باعتباره المكان الذي اقتاد الدوليون إليه النظام والمعارضة من أجل الدخول في حل للأزمة، يبدأ بوقف للنار، ورعاية دولية للشؤون الإنسانية، وخلال ذلك تنشأ وإن بصعوبة هيئة انتقالية أو حكومة تجمع غير العسكريين والأمنيين من الطرفين، وتعمل على إنهاء الأزمة، وإعادة السوريين إلى بلادهم ومساكنهم، تمهيدا للانتخابات من كل الأشكال، وإعادة للبلاد إلى حالتها الطبيعية بعد أن أدخل عليها الأسد وابنه الدمار والخراب والقتل والطغيان خلال عدة عقود!

ما شعرت بالسخط والذعر واحتقار إنسانية الإنسان، كما شعرت وأنا أشهد على التلفزيون دفن الأطفال الذين ماتوا جوعا في مخيم اليرموك، وكلام عضو وفد النظام في تفسير نص «جنيف 1»، والذي عنى بالنسبة له: «الإبقاء على النظام المدني الديمقراطي» في سوريا كما هو عليه الحال الآن! بحجة أن المقصود من «المؤامرة» الكونية على سوريا إنما هو إحلال حكم الإرهاب، محل دولة التنوير الأسدية! وهذا كلام سخيف وعبثي بالفعل، لكن خطورته تأتي ليس من وجود أناس مستعدين لتكراره كأنما هو حق وصدق، بل تأتي الخطورة من التعب الهائل والفظيع الذي أصاب الشعوب العربية خلال الأعوام الماضية من أربعة أمور: استمرار الأزمة والقتل والتخريب نتيجة استقواء المتسلطين بالإيرانيين والدوليين، مما أحدث ويحدث مرارة ويأسا وانسداد أفق وميلا للاستسلام رغم أهوال التضحيات أو بسببها، وعدم وجود أو بروز قيادات جامعة ومبادرة في بلدان التغيير تملك الشجاعة والقدرة على اجتراح البدائل، وإعطاء الأمل، ويلتف حولها الناس، وميل الفئات الصغيرة والأقليات التي ما شاركت في حركات التغيير للبحث عن سقوف ومظلات أخرى أكثرها خارجي مما يفاقم المخاوف على وحدة البلدان واحترام إنسانية الإنسان، وعودة التطرف العنيف إلى الاندلاع مفيدا من العوامل الثلاثة السالفة الذكر.

إن العقود الماضية من عمر الدولة الوطنية العربية، انقضت على أسوأ ما يكون، بعد أن استولى فيها وعليها العسكريون والأمنيون. وقد كان هم هؤلاء بعد منتصف السبعينات من القرن الماضي: الخلود في السلطة. ولأنهم أقليات إثنية أو دينية أو جغرافية أو عسكرية أو مصلحية، فقد كان همهم تفتيت الأكثريات الداخلية، والاستناد إلى الخارج الذي يبقيهم في السلطة بأي ثمن. ما كان هناك وازع من وطنية، ولا وازع من أخلاق أو رحمة. وحيال هذا السيناريو الذي اتضحت ملامحه منذ أواخر السبعينات، انصرفت الفئات المرتاحة إلى الهجرة أو الانضواء في أكناف التبعية للنظام. وقاوم السياسيون أو المسيسون أكثر، لكنهم تحطموا في النهاية. وما بقي في الشارع غير بعض الشبان الذين جرى توجيههم لمواجهة الأنظمة بالدين. فكانوا في البداية هما عند النظام، ثم صاروا ضرورة لوجوده ومسوغات لبقائه. إن أخطر ما أصاب جمهور الأكثرية المسيس هو تحطم نخبته السياسية والثقافية، والعجز عن البروز والعودة أو اجتراح نخبة أو نخب جديدة إبان اندلاع حركات التغيير. ولذلك كان الجمهور، ولا يزال، يواجه العسكريين والإيرانيين والدوليين باللحم الحي، فيقول له هؤلاء وهم يقتلونه: أين هم روادك لنتحدث ونتفاوض معهم؟! بل إن الأنظمة المنقضية بادرت – إذا صح التعبير – ولزيادة إحباط الجمهور إلى دفع ثلاث مجموعات نحو الواجهة: مجموعة المسيسين المنكسرين بسبب السجون، ومجموعة المثقفين الجالسين في بيوتهم تحت وطأة الخوف والعجز أو الأمرين معا، ومجموعة الشبان الضائعين الذين يعتنقون خطابات وتصرفات المتطرفين السابقين والذين صاروا كاريكاتيرا لهم وحسب!

وهكذا، فإن لدينا وسط الهول الأعظم من القتل والتشريد والإنكار الإقليمي والدولي، انسحابين متلازمين: انسحاب الجمهور من الشارع تحت وطأة القصف والكيماوي والبراميل المتفجرة، وانسحاب المحاصرين من المقاتلين وعائلاتهم من أحياء مدنهم القديمة التي حولوها إلى حصون، إلى خارج بلادهم بسبب فتح «ممرات آمنة» لهم، وحتى لا تموت بقيتهم تحت وطأة الجوع والقصف. وهذا في الوقت الذي يتفاوض فيه حكامهم القتلة مع الدوليين على «إقامة حكم مدني ديمقراطي»، ويا للهول!

لا يريد كثير من المحللين اعتبار الموقف يائسا إلى هذا الحد. وهم يشيرون إلى متغيرات كثيرة. أما عندي، فهناك استنتاج لن أخرج منه إلا ببرهان قاطع: لقد كان يقال إن المشكلة الوطنية والقومية تتمثل في أن تعتبر أقلية وطنية مسيطرة نفسها محتاجة إلى ضمانات للأمن والحقوق. وأنا الآن أرى أن المشكلة الأكبر علينا نحن العرب أننا أكثريات في الدين والقومية، فبالله عليكم، أخبرونا بالضمانات التي ينبغي أن نقدمها لحكامنا وجوارنا لكي يطمئنوا إلى خلود ملكهم! وإن لم تعتبروا كلامي جديا، فإن عليكم أيها المنكرون أن تطلعوني على سبب تخريب جامع خالد بن الوليد بحمص! ولله الأمر من قبل ومن بعد.

المصدر: الشرق الأوسط