توريمولينوس.. أندلسية مشغولة بخيوط الشمس مطرزة بالزهور

منوعات

مدينة الشمس والبحر

لأكثر من سبب، تبدو السياحة في جنوب إسبانيا خيارا يفضله كثيرون. حتى عندما يتجاوز الهدف الرغبات العامة في الراحة والاستجمام والبحث عن بشرة برونزية مفتقدة، أو الهرب، مؤقتا، من طقس لندن الذي يسخر من جميع نشرات الأخبار الجوية ويكذب الأرصاد التي زودتها بها، فارضا مزاجه المتقلب مثل رغبات «البرجوازية الصغيرة» ومواقفها المتذبذبة، كما يقول الماركسيون القدامى. فـ«سبعة أيام من العزلة» احتاجها كاتب هذه السطور، لأسباب خاصة لم تصمد أمام إغراء كسر العزلة وإحداث ولو كوة صغيرة في جدارها تطل على مدينة ساحرة، تبيع الشمس والبحر بأسعار معقولة.

فالجنوب الإسباني الدافئ، المسمى «كوستا دل سول»، (شاطئ الشمس)، لا يكذب اسمه، ويقدم بالإضافة إلى ما ينطوي عليه الاسم، قلادة من قرى ومواقع وتجمعات سياحية ساحرة، تنتظم مثل مسبحة ذهبية على طول سواحل مقاطعة مالغا، الواقعة ضمن حدود الأندلس ذات الحكم الذاتي. كانت مالغا خلال الحكم الإسلامي (القرن الثامن)، الميناء الرئيس، وتعد اليوم، أهم ميناء إسباني بعد برشلونة.

يحد ملغا من الشرق مدينة غرناطة، ومن الغرب مقاطعة قادس، أما شمالها فتحتله مدينتا قرطبة وأشبيلية. ويقع حولها نهران هما، غواد المدينة (وادي المدينة) وغواد أهوروس، ويزيد عدد سكانها على نصف مليون، ومن أشهر مواليدها الرسام الإسباني بابلو بيكاسو.

يضم ساحل «كوستا دل سول»، بالإضافة إلى ملغا، مدن توريمولينوس، وبن المدينة، وفوينغرولا، وميخاس، ومارببيلا (أو ماربيا)، وسان بدرو دي ألكانتارا، وإستنويا، ومانيلفا، وكساريس، ورنكون دي لافيكتوريا، وفيليز، ونيرما، وفرجيليا، وتوروكس. ولكل من هذه المجتمعات وساحلها خصائص ومواصفات تتشارك فيها مع غيرها من دون أن تفقد ملامحها الخاصة، والكل يبدأ من مطار ملقة الذي ترسو فيه قوافل السياح الجوية القادمة من كل أنحاء العالم.

في ملغا المقاطعة، وليس بعيدا عن ملغا المدينة (13 كيلومترا)، كانت وجهتنا، مدينة توريمولينوس. حسنا نحن في ربوع الأندلس، وسيكون من غير الممكن وربما من الجنون أيضا، الاكتفاء ببحرها وشمسها والاسترخاء تحت أشعتها، فهذا كله «تحصيل حاصل» للرحلة، أي رحلة إلى «شاطئ الشمس». هنا، أنت «على مرمى حجر» من كبرى مدن الأندلس التي تشهد على حضارات حفرت عميقا في تاريخها، وتركت بصماتها على مختلف أنماط الحياة فيها، بما فيها الموسيقى والفنون الأخرى، كالحضارة البيزنطية، والرومانية والحضارة العربية الإسلامية التي بقيت سيدة المشهد العام في تلك المدن لأكثر من ثمانمائة سنة، وشاهدة على الكثير من تفاصيلها، خصوصا في مدن مثل طليطلة وقرطبة وإشبيلية وغرناطة. سيكون من غير اللائق أو المنطقي العودة من الأندلس من دون إلقاء تحية على الخليفة عبد الرحمن الأول، باني مسجد قرطبة الكبير، أحد أبرز المعالم فيها، أو تجاهل قصر الحمرا (ألامبرا) أجمل القصور التي تركها العرب لتوثق تلك الحقبة من تاريخهم، مثلما يصعب تجاهل إشبيلية.

في ربوع الأندلس، سيكون سهلا على السائح الانتقال إلى جبل طارق أيضا، وإلقاء نظرة على الساحل المغربي الذي جاء منه طارق بن زياد، وترك اسمه هناك في طريقه إلى فتح المدن الأخرى (711 – 718)، وعبرت منه الحضارة العربية، وخرجت منه أيضا، بعد هزيمتيها الداخلية أولا والخارجية ثانيا. لكن لماذا لا تقضي يوما في مراكش؟ المسافة قصيرة من الفندق حيث تقيم إلى الميناء، حيث تسلم نفسك لسفينة تأخذك في ساعات قليلة، إلى عالم يستحق ولو المرور به لبعض الوقت.. عالم مراكش السحر والدهشة والتراث والأطعمة المختلفة حقا.

* توريمولينوس هذه المرة تقع هذه المدينة الصغيرة نسبيا (67 ألف نسمة، حسب إحصاء 2010)، على شاطئ البحر الأبيض المتوسط إلى الغرب من مدينة ملغا، وتبعد عنها 13 كيلومترا فقط. أي أن المسافة من مطار المدينة إلى أي من فنادق توريمولينوس، لا تستغرق أكثر من بضع دقائق، فالمدينة تقع ضمن مقاطعة ملغا، وكانت تابعة لقرية الصيادين الفقيرة، كاماركا، قبل أن تنشط فيها السياحة في بداية خمسينات القرن الماضي. وهي أول شواطئ «كوستا دل سول» التي جرى تطويرها بين مدن وقرى المقاطعة، وتشتهر بسياحها البريطانيين، و توجد بها جالية كبيرة.

خيار الرحلة الشاملة التكاليف (باكيج هوليداي) هو الأفضل لهذا النوع من الرحلات، إذ يشمل تذكرة السفر، والإقامة في فندق من خيارك الشخصي: خمسة نجوم أو أربعة أو دون ذلك. خياري كان «كوستا بارك هوتيل»، أربعة نجوم، حيث يقدم وجبة الإفطار ووجبة رئيسة أخرى (الغداء أو العشاء(.

الرحلة شاملة التكاليف، خدمة تقدمها شركات الطيران قليلة التكلفة (سفر، إقامة لست ليال وجبتان) نحو 375 جنيها إسترلينيا. وأكثر شركات الطيران التي تنظم هذه الرحلات، هي «الخطوط الجوية البريطانية»، و«إيزي جيت»، و«الخطوط النرويجية»، و«راين إير». وتنطلق الرحلات إلى ملغا عادة، من مطارات لندن التالية: غاتويك، وستانستد، ولوتون.

قسم كبير من فنادق توريمولينوس يقع وسط المدينة نفسها، على مقربة من مركزها التجاري – السياحي، الذي ينحدر عند نهايته الشرقية نحو البحر هابطا عن ظهر الهضبة التي بني السوق الرئيس عليها.

خارج الفنادق التي يوفر معظمها المسابح، وبعضها ملاعب التنس، أو صالة للرياضة، يعد التجول في أسواق توريمولينوس، وتناول الآيس كريم أو القهوة في مقاهيها الكثيرة التي تفترش مساحات تتوسطها نوافير وتحيط بها باقات الورد التي تطل عادة من معظم شرفات المدينة، يعد أحد أشكال تمضية الوقت في استرخاء «متنقل».

في رحلة التسوق هذه، يلحظ السائح سريعا، سيطرة المغاربة العرب على محلات بيع الأحذية والحقائب والمصنوعات الجلدية الأخرى، وبعض محلات بيع الهدايا التذكارية. وعلى الرغم من وقوع المغرب على حافة الأطلسي غرب ساحل أفريقيا الشمالي، وإطلاله على نهايات ساحل المتوسط، ووقوع تركيا في الجهة الأخرى تماما، شرق المتوسط، إلا أن المساومة التجارية تمتد بين الطرفين وتشكل قاسما مشتركا يلتقي في المدن الإسبانية، ليصبح من سمات البيع والشراء في كوستا دل سول.

يقدم لك البائع قطعة جلدية جيدة وأنيقة «إنها جلد مغربي». يقول لك. ثم يطلعك على سعرها المعلن، ولنفترض 70 يورو. اعرض عليه الثلث، سيتلكأ قليلا، يتمنع بعض الشيء، ثم يخفض السعر إلى النصف. اتركه، وقبل أن تكمل استدارتك يكون قد وافق على عرضك أو قبل بسعر قريب منه.

للتسوق في توريمولينوس متعة خاصة، ليس لجمال المنطقة وحده، نظافتها، أناقة محلاتها، وكثرة المقاهي وتنوعها، بل لأنها وسط المدينة التجاري السياحي الذي يقدم صورة أخرى لها للاسترخاء المؤقت. المحلات نظيفة وأنيقة والشوارع تناسب تجوالا على الأقدام بعيدا عن حركة المرور التي لا تعد مزدحمة أو صاخبة على أي حال.

الطريق إلى البحر يصبح على بعد خطوات في نهاية رحلة التجول. فأسواق توريمولينوس تقع على هضبة قليلة الارتفاع ومحدودة المساحة تنحدر بقوة نحو الشاطئ، هابطة تدريجا عبر أكثر من مائتي درجة من سلالم متعرجة، تقدم لك المزيد من محلات بيع الهدايا التذكارية والمصنوعات الجلدية الصغيرة الموزعة على جانبيها. يتيح هذا مشهدا فريدا لنزلاء الفنادق القريبة، الذين يستطيعون، التمتع بمنظر الشاطئ الرملي العريض، والأجساد المنشورة تحت الشمس باحثة عن سمرة خفيفة تحملها على بشراتها إلى بلدانها، وكذلك بمشهد المشاة الذين يقدمون وجوها متغيرة لسياح من مختلف الجنسيات، إلى جانب عشاق الركض والمشي السريع.

مثل معظم مناطق «كوستا دل سول»، تتميز توريمولينوس بشاطئ رملي عريض ممتد لأكثر من كيلومترين، تزينه أشجار النخيل، وبه ممرات خاصة للمشاة ولراكبي الدراجات. وعلى امتداد الشاطئ تتوزع المطاعم الصغيرة النظيفة الأنيقة، التي تعرض على المارة مختلف أنواع السمك وفواكه البحر، وبالطبع الجميع يقدم الباييلا، الوجبة الإسبانية الشعبية المعروفة، التي تقدم الرز مع الأسماك وفواكه البحر المختلفة.

في المساحات الرملية العريضة، ينشط فنانو النحت على رمال البحر، (في البلاد الباردة تتحول المادة إلى الثلج). ويبحث هؤلاء عن معجبين وعن بعض النقود التي تؤكد إعجابهم.

استوقفني مشهد تمساحين كبيرين من الرمل، أحدهما يلتهم ثعبانا ضخما. لماذا تماسيح ولا نهر في المدينة؟

سألت صاحب المنحوتتين الجميلتين:

هناك سببان: الأول، إنها تجتذب الأطفال، والثاني، أنها تظهر براعة الفنان نفسه، الذي يتعامل مع الكثير من تفاصيلها الخارجية المعقدة.

سألته إن كان هو صاحب العمل، فنفى، وقال إن صاحبه ذهب لتناول الغداء. أما هو فيجمع بعض النقود لكي يشتري الكثير من اللحم لإطعام التمساحين، اللذين يتناولان وجبات عدة في اليوم. وإلا فالجوع «الكافر»، سيدفع التمساحين إلى مهاجمة المارة.

عقبت ضاحكا: سأترك لك من المال ما يكفي لشراء وجبة لحم، حتى لا يتعرض الأطفال تحديدا لهجوم تمساحيك.

لكني سأعرف بعد ذلك، أن في المدينة حديقة للتماسيح، بها ثلاثمائة تمساح، أطولها أربعة أمتار. وتعيش في ممرات مائية تحيط بها أشجار النخيل، وأغلب زوارها عائلات تصطحب أبناءها الصغار.

أما لوكاتش، الذي كان مشغولا بنحت تلفزيون لشقته، بالإضافة إلى كنبة عريضة من الرمل غطاها بسجاد قطني خفيف، وطاولة صغيرة، فأخبرني أنه مدرس ابتدائي، لم يدرس أي شكل من أشكال الفنون. أقام أشهرا في لندن، عمل خلالها مع صديق له في الوشم، ما أكسبه قدرة على الرسم، ومن ثم انتقل إلى النحت بالرمال. لوكاتش يعمل فترة الصيف.

هل يمكن للوحدات النقدية الصغيرة التي يلقي بها بعض المارة، أن تجمع لك مصاريفك اليومية على الأقل؟ سألته.

في توريمولينوس 68 ألف نسمة، يصبحون مئات الآلاف خلال الصيف. تأملّ من يتوقف منهم لمشاهدة أعمالي، ويترك بعض القطع النقدية. الحصيلة فعلا مذهلة. لا تنس المعجبين أيضا، وحتى المغرمين بهذا النوع من الفن، على الرغم من عمره المؤقت. وهؤلاء مثلك أيضا، يحولونه إلى صور يحتفظون بها يمكنهم استنساخها لاحقا، وتحويلها إلى لوحات وتأطيرها. كل ذلك بعطاء صغير رمزي. بالمناسبة، هل تعلم أن البعض يطلب مني نحت أشكال من اختياره، ثم يأتي في اليوم التالي لمشاهدة ما طلبه مني والتقاط الصور، وقد اصطحب أطفاله معه؟

إنها توريمولينوس.. واحة الشمس التي تطل على مدن الأندلس الأخرى، وترسل بعض زوارها إلى الشاطئ المغربي.

المصدر: توريمولينوس: ربعي المدهون – الشرق الأوسط