غسان الإمام
غسان الإمام
كاتب وصحفي سوري مقيم في باريس

حلف «الجنتلمان» بين المؤسسة الدينية والنظام!

آراء

ابتذال المرجعيات الدينية الإسلامية والمسيحية الذي يمارسه بشار الأسد يدعو إلى الرثاء حقا. التهميش المتعمد لهذه المؤسسات يدل على مدى انحدار الحرية الدينية في سوريا. وخصوصا بعد نشوب الانتفاضة/ الثورة. وتنافسه في ذلك التنظيمات «القاعدية» التي دمرت قيم التسامح الديني والليبرالي. وتنشر الرعب بممارساتها الظلامية.

فقد أدى بشار صلاة عيد الفطر، محاطا ببطانة من عمائم المؤسسة الدينية السنية. وفي مقدمتهم مفتي الجمهورية ووزير أوقافها. براميل بوتين وخامنئي. وروحاني. وصواريخ حسن نصر الله. ومدن السنّة المدمّرة (حلب. حمص. درعا. دير الزور. إدلب) والمساجد التي سُويّتْ بالأرض. وذكرى الشيخ حسن خالد مفتي الجمهورية اللبنانية (السنّي) الذي نسفت المخابرات السورية موكبه، في حي عائشة بكار، وحولت جثمانه وأجساد عشرين عابر سبيل إلى أشلاء متناثرة.. كل هذه الفظائع والبشاعات لم تهز ضمير الكثير في المؤسسة السنية السورية. ولا أسالت دموعها! ووصل الرعب بخطيب صلاة العيد الشيخ الصواف، إلى تشبيه بشار بصلاح الدين الأيوبي. والزنكي. والظاهر بيبرس «إن الله أقامك مقام أولئك العظام الذين أَعْلَوْا قيم الرحمة والتسامح. فامضِ لما أقامك الله. وتسلح بالعزم. واستعصم بالإيمان»!

لا شك أن خلية إدارة الأزمة في مركز القرار الرئاسي السوري تلعب مع المخابرات السورية الدور الأكبر، في توجيه وتجنيد المرجعيات الدينية السنية والمسيحية، لخدمة النظام القمعي. وأذكر هنا أن بطريركي الطائفتين الأرثوذكسية والكاثوليكية (الراحلين أغناطيوس هزيم. وجورج حكيم) لقيا إعراضا واعتراضا من رعيتهما في لبنان لالتصاقهما بنظام الأسد الأب والابن. وكان المرجعية السنية السورية الشيخ سعيد رمضان البوطي قد لقي مصرعه، في تفجير المسجد الذي يلقي به عظاته ومدائحه، في النظام الدموي. بل أقام له بشار محطة تلفزيونية، لتأكيد ولائه لنظام الشبيحة. وكأنه لا يسمع نحيب ملايين الأمهات والأطفال الذين يقصفهم رئيسه (المفدَّى).

لماذا وكيف نشأ هذا الود بين المراجع الدينية التقليدية والنظام القمعي السوري؟! الواقع أنه لا يمكن فصل هذه العلاقة، عن حلف «الجنتلمان» التاريخي بين المرجعيات الدينية وبعض الأنظمة العربية الإسلامية.

وكان هناك حلف «جنتلمان» مماثل نشأ في ظلام القرون الوسطى المسيحية بين البابوية الفاتيكانية والأنظمة الأوروبية. مزقت ثورات التنوير هذا الحلف، بالفصل الظاهري والشكلي بين الدولة والدين. لكنه ما زال قائما، بشكل وآخر، بين النظام الأوروبي (العلماني) والكنيسة. وما زالت المؤسسة البريطانية المالكة، الرئيسة الرمزية والفخرية للكنيسة الإنجيلية (البروتستانتية).

النظام العربي التاريخي حرص على مهابة القداسة. والتقوى. والتقية، على نفسه، من خلال كون الخليفة سلطان الزمان. و«أمير المؤمنين ».

في المقابل، فقد نشأت المرجعية الدينية السنية، على علاقة الولاء والطاعة للخليفة، أو لأمراء الدول المنشقة عنه. أو المرتبطة به رمزيا. وكان علماء وفقهاء هذه المؤسسة أقرب إلى السلطان السياسي (الخليفة) منهم إلى رعيته. وظل مفتي الخلافة العثمانية قرونا، وهو يصدر فتاواه الدينية الخادمة لمصالحها، بجملة مختصرة جدا «يجوز» أو «لا يجوز. والله أعلم» من دون تقديم الحيثيات!

طبعا، كانت هناك استثناءات. بعض الفقهاء السنة انتقدوا الخلفاء. لكن الحض على طاعة الخليفة والدولة كان هو الغالب. فلم يلعب الفقه الديني عند السنة والشيعة دورا، في تهوية النظام المغلق. بل ألزم الفقه الشيعي آل البيت بالحكم دون غيرهم، فيما كان للنبي العربي لدى السنة كل المهابة والاحترام، من دون توظيف إجباري لآل بيته في حكم المسلمين.

قبل الفرس بالدين. ورفضوا التعريب، على الرغم من أن اللغة العربية صار لها حضور قوي في صميم اللغة الفارسية. وفي الصراع مع الخلافتين العربيتين الأموية والعباسية، حاول الفرس انتزاع السلطة، من باب الانتساب إلى «شرعية» آل البيت.

للتمويه، وانتصارا للمأمون ذي الأم الفارسية، على أخيه الأمين ذي الأم العربية، فقد اجتاح قائد جيشه الخراساني بغداد، باسم عربي شيعي (الطاهر بن الحسين). وبات تطعيم اسم العائلة بلقب ديني، أو الانتساب إلى آل البيت باعتماد عمة سوداء (حزنا على علي ونجليه) تقليدا شيعيا فارسيا. وهكذا مثلا، طلّقت أسرة الرئيس الإيراني الحالي اسمها الفارسي (فريدون). واختارت اسما ذا صبغة دينية (روحاني).

وفي الإصرار على التباين مع المذهب السني، فقد وعد المذهب الشيعي (الإيراني) نفسه بظهور «مهدي» في آخر الزمان. وفي انتظاره أحيط نائبه (الفقيه) بهالة قداسية مميزة، كما حدث للخميني، تأكيدا «لأحقية» المرجعية الشيعية باحتكار السلطة. والسياسة. والديمقراطية (الشورى). وإيران اليوم دولة دينية تحكمها هذه المرجعية.

لكن للأمانة، فقد عارض رجال دين كبار تورط المرجعية الشيعية باستلاب السياسة والحكم. لذلك خلع الخميني خليفته (آية الله) منتظري. وعندما عارض (آية الله) اللبناني الراحل محمد حسين فضل الله تورط المرجعية باحتكار السلطة، جرده حسن نصر الله، بأوامر إيرانية، من مكانته كزعيم (روحي) للحزب «الجهادي ».

أما (آية الله) علي السيستاني ذو الأصل الفارسي الذي يعتبر المرجع الشيعي الأكبر في العراق، واشتهر بأنه ضد «ولاية الفقيه»، والحكم الديني المباشر، فقد فقدَ مكانة الحيادية بدعوته ميليشيات الشيعة إلى حمل السلاح، بعد انهيار جيش المالكي النظامي في شمال العراق. لكن السيستاني عاد فتراجع، مطالبا بمشاركة السنة في الحكم، من دون أن تتخلى الطائفة الشيعية عن الحكومة.

مصر وطن التسامح الديني السني. وما زالت المؤسسة الدينية الأزهرية حارسة للمذهب من نحو ألف سنة، بعدما استقرت في الجامع الأزهر الذي بنته الأسرة الفاطمية (الإسماعيلية) الحاكمة. ولم يكن «الإخوان المسلمون» على علاقة طيبة مع تسامح المرجعية الأزهرية الحليفة التقليدية للنظام المصري في كل العهود.

من الأزهر، انطلقت المعارضة الدينية والمسلحة للغازي نابليون. ثم تجاوب بعض علماء الأزهر بقيادة الشيخ محمد عبده مع دعوة الشيخ الغامض جمال الدين الأفغاني، إلى تثوير الدين وتسييسه. لكن الشيخ محمد عبده عاد. فقصر غرضه على الإصلاح التعليمي والتربوي الحكومي والأزهري.

وعندما اغتال «الجهاز السري» الإخواني رئيسي حكومتين (أحمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي)، كان الرد الحكومي باغتيال المرشد الإخواني المؤسس حسن البنا. لم يكن للأزهر علاقة بالتصفيات المتبادلة. لكن انحيازه للسلطة كان واضحا. فقد أصدر فتوى تقول إن أسرة محمد علي الملكية الحاكمة ذات نسب ينتهي إلى آل البيت!

يلعب الأزهر اليوم دورا سياسيا وإعلاميا بارزا في مصر. فيدعو إلى التهدئة. ويوبخ «الإخوان» لعلاقتهم بـ«الإرهاب الجهادي» المنطلق ضد النظام من «حماس» غزة.

لم يكن اغتيال النقراشي وماهر أول اغتيال ديني في القرن العشرين. فقد سبقه اغتيال الزعيم الوطني السوري الدكتور عبد الرحمن الشهبندر (1940). وكشفت المحكمة المختلطة الفرنسية/ السورية، بشجاعة قضائية جريئة ونادرة، تورط المرجعية الدينية السورية، من خلال حلف «الجنتلمان» مع نظام فيشي الفرنسي الفاشي، في الجريمة.

أعتقد أن اغتيال هذا الطبيب المثقف والمناضل (قاد الثورة السورية الكبرى ضد الانتداب) غيّر مجرى التاريخ. فلو عاش الشهبندر، فربما حال دونه حدوث الانقلابات العسكرية الكلاسيكية في الأربعينات التي دمرت الديمقراطية السورية الوليدة.

كان شكري القوتلي رئيسا طيبا. لكنه لم يكن يملك رغبة وخبرة الطبيب المثقف الشهبندر، في التعامل مع جيل طلاب وشباب الأربعينات والخمسينات السورية الذين استهواهم اليسار القومي. والاشتراكي. والماركسي.

كان القوتلي على علاقة رسمية حسنة مع المرجعيات الدينية التقليدية السنية والمسيحية. ولم يرتكب خطأ تسييس الدين. في تقيّته الطائفية الباطنية، كان حافظ الأسد هو الذي عقد حلف «الجنتلمان» مع هذه المرجعيات (المعارضة للإخوان في صدامهم مع النظام الطائفي). وخَصَّ بعطف كبير المرجعيات المسيحية التي كانت قد هاجرت من أنطاكية إلى دمشق (وليس إلى لبنان)، هربا من الخلافة العثمانية.

ما زال هذا الحلف المشؤوم صالحا «للاستعمال»، بنجاح كبير، في العالم العربي! فقد قلب الانتفاضات والثورات الليبرالية إلى حروب عمياء دينية ومذهبية. ولعل الفرصة تسنح لي للحديث عن مآثر حلف «الجنتلمان» بين النظام والمؤسسات الدينية التقليدية في البلدان العربية الأخرى.

المصدر: الشرق الأوسط
http://classic.aawsat.com/leader.asp?article=782942#.U-nC_PlxWm4