علي عبيد
علي عبيد
كاتب وإعلامي من دولة الإمارات العربية المتحدة

طعم البسكويت

آراء

«ذهبنا للبحث عن وطن آمن، فوجدنا أنفسنا خرفاناً ستموت داخل كونتينر». هكذا وصف طالب اللجوء، السوري حمزة يونس، تجربته للسفر إلى أوروبا من موريتانيا. كان حمزة قد هاجر من مدينته إدلب إلى موريتانا، لدراسة الطب البشري، هرباً من الحرب الدائرة في وطنه.

وعده شخص، هو وعشرة سوريين آخرين معه، بتسفيرهم إلى أوروبا عن طريق البحر، على متن باخرة. دفع كل واحد منهم 3000 دولار. عندما وصلوا إلى الميناء، طُلِب منهم الدخول في كونتينر مغلق. رفض حمزة وثلاثة من الشباب الذين كانوا معه الدخول في الكونتينر، بينما وافق الباقون. هكذا بدأ حمزة رواية معاناته لبرنامج «قارب نجاة»، على «سكاي نيوز عربية بودكاست».

ذكرتني هذه الحكاية برواية الأديب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني الشهيرة «رجال في الشمس». تدور أحداث الرواية، التي نُشِرت عام 1963، حول ثلاثة فلسطينيين اضطرتهم ظروف ما بعد أحداث عام 1948، إلى البحث عن رزقهم خارج الوطن المحتل.

اتفقوا مع مواطنهم سائق صهريج الماء «أبو الخيزران»، على تهريبهم من العراق إلى الكويت، وذلك بالاختباء داخل الخزان الكبير، الذي في مؤخرة الصهريج، عند المرور بنقاط التفتيش على الحدود، ثم الخروج منه بعد تجاوزها.

نجحت الفكرة عند نقطة الخروج من البصرة، ولكن عند نقطة الدخول إلى الكويت، مكث «أبو الخيزران» وقتاً طويلاً، وهو يتحدث إلى الجنود، بينما الثلاثة مختبئون في الخزان تحت أشعة الشمس الحارقة، حتى فاضت أرواحهم. اكتشف «أبو الخيزران» بعد أن اجتاز الحدود، موت الثلاثة، فقرر أن يلقي جثثهم في الصحراء، لكنه تراجع خوفاً من أن تنهشها الضواري.

بعد تفكير، قرر أن يلقيها على رأس الطريق، حيث تقف سيارات البلدية عادة لإلقاء قمامتها، كي يسهل اكتشافها، ويتم دفنها، ففعل ذلك، ولكن بعد أن جرّد الجثث الثلاث من الأموال التي في جيوبها، وانتزع الساعة التي كانت في يد أحدهم، ثم ابتعد عنهم بسيارته، وهو يتساءل بدهشة: لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟.

وإذا كان أبطال رواية غسان كنفاني الثلاثة، بدوا مستسلمين إلى الدرجة التي لم يدقوا معها جدران الخزان قبل أن يهلكوا، كما عبّر عن ذلك سائق الصهريج الانتهازي مندهشاً، فإن حمزة لم يستسلم منذ المحاولة الأولى، فقد التقى هو وأربعة سوريين، مع رجل آخر، وعد بإدخالهم الجزائر عن طريق مالي.

دفع كل واحد منهم 2000 دولار هذه المرة، وظلوا سائرين في الصحراء 5 أيام تقريباً. كانوا يجلسون في سيارة مكشوفة، والشمس تضربهم. أخذوا معهم ماءً وتمراً وأكلاً غير قابل للتلف. في الطريق التقتهم مجموعة قطاع طرق مسلحة، يبدو أنها كانت على اتفاق مع المهرب، فأخذت منهم جوازات سفرهم، ثم طلبت من كل واحد منهم 200 دولار لإعادة الجوازات إليهم.

في الجزائر، ظلوا 3 شهور يحاولون دخول المغرب عن طريق مدينة مغنية دون جدوى. بعد الاستعانة بمهرب آخر، دفع كل واحد منهم له 500 دولار، مشوا 9 ساعات من الجزائر حتى وصلوا مدينة وجدة شرقي المغرب، ومنها سافر حمزة إلى مدينة الناظور، من أجل الهجرة إلى أوروبا، لكن أمواله كلها سُرِقت، فقرر البقاء في المغرب، حيث تزوج ويعمل الآن طباخاً هناك، لكن أمل العودة إلى مدينته في سوريا، ما زال يراوده.

في شهر أغسطس من عام 2015، عثرت الشرطة النمساوية على 71 جثة لمهاجرين غير شرعيين في شاحنة تبريد مهجورة، على طريق سريع داخل الحدود النمساوية، قرب الحدود مع المجر.

قالت الشرطة إن الجثث تعود إلى 59 رجلاً و8 نساء و4 أطفال، يُعتقد أنها ظلت هناك لمدة تراوحت ما بين يوم ونصف اليوم إلى يومين، ماتوا اختناقاً داخل الشاحنة، التي لم تكن تحوي أي فتحات تهوية في الجدران. تبيّن أن الضحايا كانوا مهاجرين من سوريا، بعد أن أكد مدير الشرطة، أنهم عثروا على وثائق سفر داخل الشاحنة، توضح هويات ركابها.

يقول حمزة في نهاية البودكاست: «الوطن غطاؤك وسترك.. ريحة الوطن غير». ويضيف: «البسكويت اللي نأكلها في الوطن، لها طعم غير بسكويت الغربة».

صهريج ماء تحت شمس حارقة.. كونتينر مغلق على متن باخرة.. شاحنة تبريد دون فتحات تهوية. ما هي إلا وسائل لاستغلال إنسان هارب من وطنه وامتهانٌ لكرامته. ولأن كرامة الإنسان من كرامة الأوطان، ولأن كرامة بعض الأوطان، أصبحت مهدرة في هذا الزمان، فإن طعم البسكويت في الغربة مختلف، وبلا طعم غالباً.

المصدر: البيان