عندما يزحف “النفط” أمامك على الأرض

آراء

لقد حظيت بشرف تأمل النفط يزحف من أمامي، بكل شموخ ووقار، عندما دعيت من قبل وزارة التعليم العالي ـ مشكورة ـ لحضور حفل تخريج وتكريم الدفعة الثالثة من خريجات وخريجي برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي، في بريطانيا وأيرلندا، والذي أقيم في قاعة الاحتفالات الملكية في لندن، في يوم الأحد الموافق 19/5/1434. وقد سبق حفل التخرج بيوم افتتاح صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نواف بن عبدالعزيز، سفير خادم الحرمين في بريطانيا، يوم المهنة، والذي عقد بنفس صالة الاحتفالات الدولية في لندن، حيث تواجدت معظم القطاعات العامة والخاصة، من وزارات وجامعات وبنوك وشركات لاستقطاب الخريجات والخريجين للعمل فيها. وهذا تنافس محمود ومطلوب من قبل قطاعاتنا العامة والخاصة، في البحث عن الكفاءات الوطنية الشابة، وكذلك شهادة منها بجودة مخرجات برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي، حيث تتسابق لقطف ثماره الطيبة اليانعة من منبعه.

اليابان عندما خططت لخوض غمار التطور والرقي، أرسلت العديد من طالباتها وطلبتها لأوروبا والولايات المتحدة للدراسة فيهما؛ والذين بدورهم عادوا وأسسوا اليابان الصناعية المتطورة التي نعرفها الآن، وكذلك تجربة كوريا الجنوبية وماليزيا ودول ما يسمى بالنمور الآسيوية، فعلت نفس ما فعلته اليابان، حيث أرسلت أعدادا كبيرة من طالباتها وطلبتها للدراسة في الجامعات الغربية، ومن ثم العودة لقيادة زمام المبادرة في تطوير دولهم ونشلها من مستنقع العالم الثالث إلى العالم الأول، وبكل جدارة واقتدار. ليس بالضرورة أن تتطور أو تتقدم دولة ما بسبب غناها بالمواد الخام الطبيعية التي تقبع تحت أو فوق جغرافيتها؛ ولكن بالضرورة أن تتطور أي دولة لديها كوادر بشرية مؤهلة، التأهيل المتقدم والمطلوب لإدارة شؤونها الإدارية والاقتصادية والصناعية والسياسية؛ ولا يتم ذلك إلا عن طريق التعليم المتقدم والمتطور، والذي يسابق الزمن بقفزاته ومبادراته النوعية.

هنالك دول تكون الأرض فيها هي البطل، بما تحتويه من مواد خام طبيعية أو أنهار وخيرات وموقع استراتيجي تجاري، لا الإنسان الذي يسكنها، ولذلك فقد تتحول خيراتها الطبيعية لنقمة عليها، لا نعمة لها، مثل كثير من الدول الأفريقية والآسيوية، والعربية وللأسف الشديد. وهنالك دول يكون الإنسان فيها هو البطل، وجغرافيتها بؤرا لا خير فيها؛ ومع ذلك تتحول إلى دولة عظمى، مثل اليابان والصين وكوريا الجنوبية وسويسرا وغيرها من دول أوروبية. وهنالك دول تكون الأرض فيها والإنسان كلاهما أبطالا، مثل الولايات المتحدة وكندا وغيرهما، حيث الأرض غنية بالخيرات والإنسان فيها مليء بالعلوم والمهارات.

النفط يتدفق من أرضنا كالأنهار، منذ أكثر من 70 سنة، ومستوى التطور والتقدم لدينا لا يتناسب مع الثروات التي حصلنا عليها.. إذاً فهنالك خلل ما يوجد لدينا. وبما أن أرضنا أثبتت بطولتها وما زالت تثبت ذلك؛ إذاً فالخلل يكمن بالضرورة بإنساننا الذي لم يواكب بطولة الأرض. أثبت الإنسان لدينا عجزه عن إدارة ثرواته الطبيعية بالشكل المطلوب. قال تعالى “ولئن شكرتم لأزيدنكم..” والحفاظ على النعم ورعايتها وتنميتها وصرفها بأوجهها المطلوبة، هو جزء من شكر النعم وسبب في زيادتها، بإذن الله تعالى.

التعليم الجيد هو السبيل إلى ارتقاء الأمم وتطورها، كما قال شاعرنا العربي “العلم يبني بيوتا لا عماد لها.. والجهل يهدم بيت العز والشرف”. في هذا البيت اختصر لنا شاعرنا، في شطر بيته الأول معادلة الإنسان البطل والأرض غير البطلة، وفي شطر بيته الثاني معادلة الأرض البطلة والإنسان غير البطل.. إذاً لا بطولة لإنسان دون تسلحه بسلاح العلم، ولا علم بدون محيط علمي ثقافي متكامل. العلم ليس مبنى ومعلما وكتابا ومكتبة ومختبرا، مع أهميتها.. العلم هو أكثر من ذلك بكثير. العلم هو نتاج بيئة علمية ثقافية أكاديمية اجتماعية حرة يحتضنها الحرم الجامعي، بدون أي تدخل لا من قريب أو بعيد للسياسي أو للبيروقراطي، أو للعقدي المؤدلج؛ حيث السياسة والأدلجة تعتمد على تغييب العقل وتزييف الوعي، والجامعة هي نقيض ذلك، لا بل والمناهض لذلك.

الجامعة سميت جامعة لكونها جامعة، ليس فقط للمادة العلمية، ولكن حتى لطريقة وأسلوب استخدامها في حياة الإنسان العامة والخاصة. التخصص الجامعي الدقيق ليس تقييدا لصاحب التخصص، وإنما هو تمهيد لفتح آفاق جميع التخصصات أمامه، كون الجامعة تعد الطالب ليس فقط علمياً وإنما أيضاً حياتياً وعملياً من ناحية القدرة على التفكير السليم والفرز بين الصواب والخطأ، والقدرة على اتخاذ القرار السريع والصائب في نفس الوقت، ولذلك فليس المطلوب من الجامعات تخريج من يشغل الوظائف العامة أو الخاصة فقط؛ وإنما عليها يقع عبء تخريج كوادر وقيادات للمجتمع، تتميز بروح المبادرة والقدرة على الخلق والإبداع والتطوير والتنافس.

إن إخفاق جامعاتنا في أداء دورها المنوط بها لا يتحمله شخص أو سبب أو ظرف بعينه، ولكنه نتاج إخفاقات متراكمة، ليس مجال نقاشها في هذه المساحة؛ ولكن الاعتراف بذلك هو السبيل الأمثل والأنجع لتدارك سلبياتها. عشرات الآلاف يتخرجون كل سنة من جامعاتنا؛ منذ أكثر من ثلاثة عقود؛ والبطالة تزداد بزيادة الخريجين والخريجات، وهذا دليل واضح على عدم مواكبة التعليم العالي لدينا للتنمية السريعة والحيوية التي تخوض غمارها مملكتنا، ولذلك عندما أدرك خادم الحرمين الشريفين ـ حفظه الله وسدد خطاه ـ الأزمة التي يواجهها تعليمنا العالي، رسم خطة الإنقاذ، والتي تتمثل في تخصيص المليارات وبذل الجهود المكثفة لتحسين وضعه والارتقاء بمستواه، لتواكب مخرجاته حركة التنمية المتسارعة والطموحة في المملكة. وبنفس الوقت أطلق العنان لبرنامجه للابتعاث الخارجي، من أجل حاجة الوطن الملحة الآن لكوادر تواكب حركة التنمية في المملكة، حتى يستعيد تعليمنا العالي عافيته، ويقوم بدوره المطلوب على أكمل وجه.

كان حفل تخرج طالباتنا وطلبتنا المبتعثين في المملكة المتحدة وأيرلندا حفلاً مهيباً ورائعاً، يقبض على الأنفاس؛ حيث قام حوالي 3500 طالبة وطالب من حملة الدكتوراه والماجستير والبكالوريوس، في كافة وأدق التخصصات، بالزحف الوقور والمهيب من أمامنا وهم متوشحون بأرواب وقبعات التخرج.. لا تستطيع أمام هذا المشهد الحضاري الأخاذ، إلا أن تحمد الله شاكراً، كونك تشاهد نفط بلدك يزحف على الأرض من أمامك؛ حيث هم وزميلاتهم وزملاؤهم المنتشرون في باقي أنحاء العالم، الذين يتلقون العلم بأفضل جامعات العالم، ضمن برنامج خادم الحرمين للابتعاث الخارجي، سيكونون بإذن الله تعالى أجنحتنا التي ستحلق بنا إلى مصاف الدول المتحضرة.

وأنا أتأمل هذا الزحف العظيم والمهيب من الخريجات والخريجين أمامي، فهمت ما كان يقصده خادم الحرمين الشريفين، عندما قال أمام طالباتنا وطلبتنا المبتعثين في الولايات المتحدة “قولوا أمين، قولوا أمين، قولوا أمين.. الله يطول بعمر البترول”.. أي إن طول عمر البترول يتمثل بهم ومنهم ولهم.. حفظ الله خادم الحرمين الشريفين، وحفظ كل المخلصين لهذا الوطن. وحفظ الله طالباتنا وطلبتنا الدارسين بالخارج والداخل، وسدد خطاهم لما يحبه ويرضاه، وحفظ الله الوطن للجميع.

المصدر: الوطن أون لاين