مأزق الكتابة في الوطن العربي

آراء

“الكتابة عملٌ انقلابي”! قالها شاعر العروبة الراحل نزار قباني عام 1973 خلال مقالات له في مجلة “الأسبوع العربي”. يقول في موقع من الكتاب الصادر عام 1975:”إن تكون كاتباً عربياً، في هذه المرحلة الساخنة بالذات، دون أن تؤمن بالشرط الانقلابي.. معناهُ أن تبقى متسولاً على رصيف لطفي المنفلوطي… وأبواب المقاهي التي يقرأ الراوي فيها قصة عنترة والزير سالم وأبي زيد الهلالي. وأن تكون كاتباً عربياً، في هذا الوطن الخارج لتوه من غرفة التخدير والعمليات، دون أن تؤمن بالشرط الانقلابي، معناهُ أن تبقى حاجباً على باب السلطان عبدالحميد في الآستانة، أو عضواً في حكومة الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا، أو وزيراً بلا حقيبة في حكومة المحافظين في إنجلترا”!

فهل يؤمن كُتابنا اليوم بهذا الشرط الانقلابي؟! وهل يمارسون الفعلَ الانقلابي على الأوضاع المتردية في الوطن العربي؟! وهل فعلاً أن الوطن العربي اليوم مختلف عما كان عليه عام 1975، حيث الحرب الأهلية اللبنانية التي مزّقت لبنان، وآثار عدوان 1967، وما تلاها من اجتياح إسرائيلي لذلك البلد عام 1982، واتفاقيات كامب ديفيد واحتلال الكويت وغزو العراق، وغيرها من الأحداث المأساوية التي لم يهدأ لها بال الإنساني العربي، وزادت في بؤسه وتعاسته وسوء أحواله وموت اقتصاده، حتى بدأت الثورات العربية قبل حوالي عامين، أي بعد 35 عاماً مما كتبه الشاعر نزار قباني!؟

فهل تفاعل كُتابنا مع واقعهم بإيجابية؟! وهل حملوا أرواحهم وأرزاقهم ومستقبل أبنائهم على أيديهم وهم يكتبون الحقيقة في هذا الوطن؟! وهل تشردوا وجاعوا على أرصفة لندن وباريس من أجل أن يقولوا كلمة الحق، ويشحذوا ألسنتهم في ركن الخطباء في “الهايد بارك”؟! حيث لا يوجد شياطين السلطة من أعضاء الرقابة في وزارات الإعلام! وهل آمنوا في منازلهم الضيقة وهم يتقلبون على جمر الحنين لهذا الوطن، ولم تطلهم يدُ الغدر كما طالت الفنان ناجي العلي؟!

الوطن العربي، كان ومازال أغلبه مساحة تمرح فيها الشياطين وتنعق فيها قبائل البوم المشؤومة التي لم تحمل له البشائر التي وعدَ بها الزعماء -في البلدان التي تعمّدوا فيها بماء الديكتاتورية وشربوا دم الشعوب في كؤوس “دراكولا”!

مأزق الكتابة في الوطن العربي أن تكون مع أو ضد! فإن لم تكن مع… فأنت ضد! هكذا تعلمنا من التاريخ ومن المناهج البالية التي أسسَت ميكافيلية “أنا وابن عمي على الغريب”… أو “لا توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار”! ولم تعط الطلبة مساحة للعقل أو مقاربة لقراءة الأحداث.

مأزق الكتابة في الوطن العربي أنها مُحاصرة أولاً بسوء التفسير، وبالظلامية، وبالمؤامراتية، وبالخروج على الجماعة، وبشق عصا الطاعة، وبالنواميس الكهنوتية للسلطة، التي لا تقول إلا خيراً… ولا تفعل إلا خيراً!

مأزق الكتابة في الوطن العربي أنك ستكون في مأمن عندما تكون مُمَجداً.. منافقاً.. حربائياً.. وبائعاً ضميرك في “سوق الجمعة”. أو أن تعيش في تابوت التاريخ حيث تغرف من معلقات أمرئ القيس ولبيد وتتغنى بحماسيات المتنبي وأبي تمام، وغزليات أبي نواس، ومقامات الحريري. أو تتحدث عن ازدحام المرور وأسعار الأغذية أو حجم الرغيف، فهذه المواضيع لا توقظ قرن الاستشعار الأحمر لدى الرقيب ولا تزعج السلطة.

مأزق الكتابة في الوطن العربي أنك لابد أن تتصاحب مع الرقيب الذي يقف على الورقة التي تكتب عليها، وتأتي له بكوب الشاي وتقدم له سيجارة! وأن توقن بأن دورك يتلخص في عدم “الإيذاء السياسي”، وعدم تعكير المزاج العام، وعدم نقد الأداء العام! لأنك لو قمت بذلك -وهو من مصلحة السلطة- فأنت انتقدت عمل السلطة، لأن السلطة هي التي اختارت المنفذين! ولكأنهم ليسوا من جنس البشر! فهم لا يخطئون، ولا يظلمون، ولا يسرقون، ولا يجاملون، ولا يخادعون! فعليك إذن أن تمدح… وتمدح، وإلا فإن حظيرة “الجمال الجُرب” بانتظارك، أو المنفى غير الاختياري أمامك.

مأزق الكتابة في الوطن العربي أنك لا تعرف ماذا يُغضب وماذا يُسعد؟! فأحياناً تعتقد أن كشف الحقيقة يُعين السلطة على تطبيق الشفافية والعدالة والإنتاجية، ويجب أن تنال عليه وساماً!

ما زال الوطن العربي كما كان عام 1975 أو عام 1948، أو ما قبل ذلك أيام الدويلات المتناحرة! فمعظم كتابنا يموتون وهم في غربة، وقد يحظى المحظوظون بربع صفحة نعي في جريدة متثائبة! وأغلبهم يُصاح بهم (حصاة وزرَّتْ عن طريق المسلمين) أي الحمد لله على رحيلهم. وأغلبهم يصاحب عيادات السكري وضغط الدم والتبول اللاإرادي. وما زال هذا الوطن لا يؤمن بدور الكاتب كمصلح اجتماعي، وعاشق لوطنه، ومحبّ لأهله حكاماً ومحكومين، وليس مخلوقاً “معاكساً” من فصيلة الشمبانزي المسعور. وما زال هذا الوطن يعاني هاجس “نظرية المؤامرة” من الكتاب، و”سرطان” الوطنية الذي حاول الاستعمار استئصاله منذ أيام الانتدابات المتعددة عليه.

وما زال هذا الوطن يرزحُ تحت وطأة تاريخ البرامكة والانكشارية وحوافر خيول هولاكو. لقد ركب الشعبَ العربي ألفُ هولاكو.. وألفُ جنكيز خان.. وألفُ نابليون، ولم يتمكن الكاتب العربي من معرفة موقعه على خريطة الوطن! هل إن انتقد أفعال هولاكو وجنكيز خان ونابليون سيكون وطنياً؟! وهل إن ناصرَ حركات التحرر وعانق يوسف العظمة وسعد زغلول وعمر المختار سيكون “تابعاً” أجنبياً ويتحرك ضمن أجندة خارجية؟!

هذا هو مأزق الكتابة في الوطن العربي. أن الكاتب أصبح لا يفرّق بين الألوان، ولا بين الأشكال، ولا يفسّر عمقَ النظرة أو صفارَ الابتسامة؟!

الكاتب العربي لا يعرف من هم معه، ومن هم ضده. لذلك، فإنه للأسف يجهل الدور ويجهل المهمة. فأعذروا كتابنا إن أصابهم العقم أو تحولوا إلى “وراقين” خلف أسوار الحظ. بالطبع لا أستثني نفسي!

المصدر: جريدة الاتحاد