«سـراب» الجماعات الإسلامية

آراء

أهداني الأخ الدكتور جمال سند السويدي مدير عام مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية نسخة من كتابه الجديد الضخم «السراب»، الذي أصدره حديثاً باللغتين العربية والإنجليزية، مع بعض النسخ الصوتية والإلكترونية. وقسم المؤلف كتابه إلى أربعة فصول، تناول أولها الإطار النظري والبحثي للموضوع، ومثل الثاني دراسة حالة شملت الجماعات الدينية السياسية، مثل «الإخوان المسلمون»، والسلفيون، والسرورية، والمنظمات الجهادية. وتناول الجزء الثالث مسحاً للرأي العام حول الجماعات الدينية السياسية. وتناول الجزء الرابع خلاصة الدراسة واستنتاجاتها. وقد جاء الكتاب في 823 صفحة، موثقاً بالمراجع والملاحق الخاصة بالأعلام.

وأتوقف عند الفصل الأول من باب «الإسلام السياسي بين الواقع والأسطورة»، حيث يذكر المؤلف أن الإسلام السياسي ظهر مع بداية القرن العشرين، كنتيجة لتدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الأمة العربية والإسلامية، بعد حقبة الاستعمار، وسقوط الخلافة العثمانية على يد أتاتورك. لقد أغضب وجود دولة علمانية متشددة في تركيا بعض الدوائر المتشددة من المسلمين، مما أدى لظهور تنظيمات كلفت نفسها بالمحافظة على الهوية الإسلامية! ومع الوقت تبنت هذه التنظيمات أفكاراً جديدة، منها أن الدين يوفر نظاماً يستطيع التعامل مع سائر جوانب الحياة بما فيها السياسية. ومن الشعارات التي استخدمتها تلك التنظيمات، إقامة الدولة الإسلامية طبقاً لنظرية الحاكمية، التي تعتمد على الجهاد ضد «الآخر»، ومنها جاء إعلان «أبوبكر البغدادي» أميراً للمؤمنين!

ويعرّج المؤلف على علاقة الرئيس جمال عبدالناصر، في مصر، مع «الإخوان المسلمين»، وكذلك الرئيس أنور السادات من بعده، الذي تجاهل نظامه بعض نشاطات «الإخوان المسلمين» في بعض الأقاليم الفقيرة النائية. ويرى المؤلف أن الدولة المصرية في السبعينيات كانت مؤيدة، ضمناً، للتوسع الديني، لكنها كانت مصرة على أن يكون ذلك التوجه متحضراً متطوراً يساعد السياسات. وأثبتت التجربة المصرية أن الاستخدام السياسي لورقة الجماعات الإسلامية كان في غاية الخطورة. وبرأيي أن هذا الاستنتاج ظهرت صحته جلية مع انطلاق موجات «الربيع العربي»، وما حصل في مصر من تغيرات قلبت وجه الحياة، وأسقطت النظام الراسخ للرئيس حسني مبارك، ثم تسلم «الإخوان المسلمين» الحكم لفترة.
الكتاب صيغ بلغة إنجليزية راقية وسهلة، واعتمد مصادر تاريخية موثوقة، كما عرّج على العديد من الأحداث، مثل ظهور تنظيم «القاعدة»، والأحزاب السياسية مثل «حزب الله» الذي يتبع ولاية الفقيه في إيران.

وفي الفصل الثاني، يسبر المؤلف أهم الجوانب التاريخية، مبيناً ضرورة الفصل بين الدين والسياسية في العالم العربي؛ لأن ذلك يؤثر على كثير من القضايا، ومنها خطط التنمية. ويرى أن هذا الفصل أكثر أهمية الآن من أي وقت مضى، طبقاً للتغيرات العميقة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتغيّرات الفكرية التي شهدها العالم العربي والإسلامي، مع وصول الإسلاميين لدائرة القرار في بعض الدول العربية.

كتاب ضخم وأنيق، موضوعي وموسوعي، يأتي في وقت أصبحت فيه صورة الإسلام عرضة للكثير من التشويه. إنه السراب الذي يعيشه العالم العربي مع التنظيمات الدينية السياسية، حيث يبين السويدي أن ما تأمله تلك التنظميات من ترتيب للأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية إنما هو سراب، تماماً كما هي قابلية تلك التنظيمات لاستلهام التنمية والتطور والرخاء، إذ كيف تقوم تنمية دون مجاراة لواقع الأحداث والتطورات المتتالية في حياة الشعوب وتجاربها نحو النهوض من عصور التخلف، وممارسة حقوقها في العيش ضمن نظام ديمقراطي يرفض الظلم والاستبداد.

كتاب «السراب» قد يحقق لنا واقعاً جديداً، فيما لو تفاعلت الأنظمة مع شعوبها، وبسطت العدالة، وطبّقت خطط التنمية وحاربت الفساد. وهنا تقوى الدولة – أي دولة – ويتحد الشعب معها ضد أي تنظيمات ظلامية مسكونة بعقدة التاريخ، تريد لهذا العالم العربي والإسلامي أن يعود إلى داحس والغبراء وسير الزير سالم، ويقابل العالم المتحضر من وراء حجاب!

المصدر: الاتحاد