من يرفع العلم يرفع العلم

آراء

أبارك وأهنئ من كل قلبي شعبنا السعودي الكريم، رجاله قبل نسائه، صغاره قبل كباره، بتعيين خادم الحرمين الشريفين، لثلاثين عضوة في مجلس الشورى. وأخص بذلك جميع العضوات المعينات في المجلس، والذي نرجو بأن يكن منصة لمركبات مجتمعنا الجاهزة والمنتظرة للانطلاق نحو المزيد من التطور والازدهار والإنسانية، على نيلهن ثقة خادم الحرمين، الذي اختارهن ليمثلن شعبهن كل شعبهن في المجلس، للمشاركة في صنع القرارات جنبا إلى جنب مع أشقائهن الرجال.

المرأة وفي العالم أجمع، أتى دورها في المشاركة في صنع القرار في مجتمعها، متأخرا عن الرجل وبمراحل طويلة؛ وذلك لعدة أسباب منها كون تولي المرأة لمنصب صناعة القرار هو دلالة على أهليتها الكاملة وغير الناقصة عن أهلية شقيقها الرجل في أداء واجباتها تجاه مجتمعها؛ وعليه فهذا إعلان لحقها في حصولها على جميع حقوقها مثلها مثل الرجل، فمن الغبن في حقها كما في حق الرجل بأن تساويه في المسؤوليات ولا تساويه في الحقوق؛ وعليه لم تستعد المجتمعات لذلك سوى في العصر الحديث. كانت قرارات المجتمعات المتأخرة تتخذ عن طريق العضلات، لا عن طريق العقول المؤهلات؛ ولذلك كانت عضلات الرجل الجسدية هي المؤهلة لقيادة المجتمع، وجعل من حظ المرأة قليلاً إن لم نقل معدوما مشاركتها في صنع القرار في مجتمعها، حيث عضلاتها الجسدية لا تؤهلها لذلك. كانت الحرب بالسيوف والرماح والسهام وغيرها من الأسلحة القديمة هي الحل الحاسم لمشاكل المجتمعات القديمة؛ ولذلك فلا طاقة لمثل هذه الحروب إلا للرجال، وذوي العضلات منهم بالتحديد. وعليه أصبح من يقود الحرب ويشارك في إدارة رحاها، في المجتمعات القديمة هم فقط المؤهلون لصنع القرارات فيها دون غيرهم من الرجال، ناهيك عن النساء اللواتي لا يشاركن في الحرب الفعلية لا من بعيد ولا من قريب.

وعلى هذا الأساس أصبح إتقان الحرب هو الفيصل في فرز من يشارك في صنع القرارات في المجتمعات من عدمه. وطبعاً كانت النساء أقل شأناً من غيرهن في إتقان وإدارة غمار الحرب؛ ولذلك فكان عدم مشاركتهن في صناعة القرار في مجتمعاتهن من تحصيل الحاصل. بل بالعكس من ذلك، فمن يهزم في الحرب، يقتل رجاله وتسبى نساؤه؛ إي أصبحن في بعض المجتمعات خاصة الصحراوية منها عبئا على الرجل في حربه وسلمه. ولذلك غيبت المرأة عن موقع صنع القرار في مجتمعها، إلا في حالات فردية نادرة، لا يمكن القياس عليها.

إذاً فبطريقة أو أخرى، فإن من يدافع عن مجتمعه في إجادته لخوص غمار المعارك، والتي تعتمد على قوة وصلابة وجلادة العضلات الجسدية، هو من يحق له رفع عَلم “راية” مجتمعه، حيث الرايات ترفع أثناء المعارك؛ ولذلك فلا يَرفع راية مجتمعه عالياً ويحميها من السقوط، سوى من يجيد رفع السيف ويذود عن الراية، ويقتلع راية الخصوم أو الأعداء من قواعدها ويسقطها. وهذا صحيح عندما كانت تشن الحروب على جبهة واحدة، وهي جبهة الاقتتال، والتي قد تكون بعيدة عن المجتمع، والذي لا يعلم عنها سوى عن طريق خبر يأتيه من بشير أو نذير. أي كانت معادلة صنع القرار في المجتمعات المتأخرة هي “من يرفع السيف يرفع العَلم (الراية)”؛ ومن يرفع العَلم، يحق له صنع القرارات في مجتمعه أو المشاركة في صنعها. بعد تقدم الإنسان وتطوره من ناحية العِلم والتقنية والإنتاج الاقتصادي؛ أصبحت معادلة خوض الحروب أكثر تعقيداً من أن تخاض فقط عن طريق العضلات الجسدية، ولكن عن طريق العضلات العقلية والمتمثلة بالعِلم والذي بدونه لا تأتي التقنية ولا يزدهر الاقتصاد ويتطور الإنتاج، أي بأن المؤهلات العقلية قبل المؤهلات الجسدية أصبحت الفيصل في كسب الحرب من عدمه. خاصة مع توزع الحرب لجبهتين، جبهة أمامية كما كانت، حيث الاقتتال، وأيضاً جبهة داخلية والتي هي المدد والداعم الرئيس والحامي لجبهة القتال الأمامية. وعليه تمت إعادة تشكيل معادلة صنع القرار، من “من يرفع السيف يرفع العَلم” إلى “من يرفع العِلم يرفع العَلم”؛ ومن يرفع العَلم يحق له صنع القرارات في مجتمعه أو المشاركة في صنعها. والذي يدعم ذلك ويؤكد عليه هو تحول كثير من الحروب بين الشعوب إلى منافسات بينها في التقدم العِلمي، والذي هو الأساس لتطور الإنتاج وتقدم التقنية وقوة ووفرة الاقتصاد، بشكل عام. أي أصبحت الشعوب لا تغزى الآن فقط بالسيوف والجنود كما كانت؛ ولكن تغزى أيضاً بالاختراعات وبالسلع والخدمات، وصمود جبهاتها الداخلية، تتمحور حول إتقانها للعِلم والعمل. فلو كان شاعرنا أبو تمام بيننا، لعدل من بيته “السيف أصدق إنباء من الكتب/ في حده الحد بين الجد واللعب” إلى “العِلم أصدق إنباء من الحرب/ في حده الحد بين الجد واللعب”.

ومن الطبيعي وبشكل عام، بأن المرأة والرجل غير متعادلين في عضلاتهما الجسدية ولكن لا يشك أحد بأنهما غير متعادلين في عضلاتهما العقلية، إذا أتيح لهما نفس الفرص والمجالات في تلقي العِلم والتعلم والتدرب والممارسة. وقد أثبتت المرأة السعودية قدرتها المتفوقة ليس فقط في تعلم العِلم وتعليمه، ولكن أيضاً في المشاركة في تطوير العِلم ذاته، من خلال البحوث والتجارب المدعومة بالممارسة العملية، وأصبحت نداً للرجل في ذلك، وحصلت على جوائز وشهادات تقدير عالمية ومحلية. هذا برغم عدم التساوي بين الرجل والمرأة لدينا؛ في مجال التعلم والعمل ومحدودية حركة المرأة، إن لم نقل تقييدها مقارنة بالرجل. ولذلك فبما أن المرأة لدينا رفعت العِلم وبجدارة، فحق لها الآن بأن ترفع العَلم وبجداره كذلك، وتحافظ على رفعته بمشاركتها بصنع القرارات لدينا.

وهذا ما أكدته التجربة الإنسانية الحديثة بأن المرأة مكافئة للرجل بالأهلية العقلية، ولذلك تولت أرفع المناصب في عدد من الدول العظمى، كرئيسة وزراء ووزيرة خارجية. هذا عدا العضوات في البرلمانات، وكل هذا أتى عن طريق الانتخاب لا التعيين فقط، أي بأن الشعوب هي من فرزتهن من بين منافسيهن من الرجال، لتفوقهن عليهم في المجالات المطلوبة.

أي بأن الفرق بين المجتمعات المتقدمة والمتأخرة هو كون العضلات الجسدية هي معيار النجاح والقيادة لدى المجتمعات المتأخرة وكون العضلات العقلية هي معيار النجاح والقيادة لدى المجتمعات المتقدمة. ونعرف المجتمعات المتقدمة من المتأخرة، بأن المتقدمة منها هي من تشارك المرأة في صناعة القرار لديها، أما المتأخرة منها فهي من يقتصر صنع القرار لديها على الرجل كما كانت في أزمانها الغابرة.

فهنيئاً لنا دخول المرأة دائرة صنع القرار في مجتمعنا، حيث هذا دلالة على بداية ولوجنا لعصر العِلم والتقدم من أوسع أبوابه. وشكراً لخادم الحرمين الشريفين على رؤيته الحضارية وقيادته الحكيمة لنا نحو العِلم والتقدم.

المصدر: الوطن اون لاين