سمير عطا الله
سمير عطا الله
كاتب لبناني

سيرة التعب

الثلاثاء ٠١ أكتوبر ٢٠٢٤

الصحافيون متعَبون. صحيح أنهم ليسوا في أهوال الضاحية الجنوبية، ولا هم يبحثون عن أي مأوى في صيدا، وليسوا في عراء غزة ومطرها المبكر كأنما في تواطؤ مع سفّاح القطاع. ولكنهم متعَبون. في أي حال، أتعبتهم رؤيةُ قوافل الأيتام، ومواكب الشهداء. أتعبهم صمت الحزانى، وصوت الصمت وشكواه، ومكابرة الجروح، وألم الجوع، ومدارس الأطفال التي حوّلت إلى منامات، واللاجئون الذين يرون منازلهم أمام عيونهم، ويجبرون على الاستحمام وسط الجماعات. الصحافيون متعَبون. فاضت محابرهم وجفت مآقيهم، ولا هم يأملون. وما عادوا يعرفون بعد كل هذه الكوارث والمصائب والنوازل، إن كان الجبن في المزيد من الموت، أم في البحث عن شيء من الحياة، ولا إن كانت البطولة في تقديم المزيد من الضحايا، أم الحكمة في تقليص عدد الجنازات وطولها، والأكفان التي تلف نعوشها. متعبون أهل الصحافة وعاجزون، ولم يعد لديهم ما يكتبون. مشكلتهم أنهم لا يتقاعدون، ولا الزمن العربي يتقاعد، ولا العصر الإسرائيلي يرعوي، ولا الهزال العالمي يشفى. وهم متعبون، والبؤساء يُصطادون في «الفانات» بين أطفالهم، والناس أبطال ومجاهدون، فوق الأرض وتحتها، في الأنفاق الرهيبة وظلمتها وانقطاع أنفاسها، لكنهم أيضاً بشر ويفزعون ويأملون ولا يحبون مشهد أطفالهم بلا عشاء، وبلا كفن. تعب الصحافيون من المشهد. من نوع الخسائر. من مواكب الرجال. من انقلاب الأوطان إلى ملاجئ ومراكز إيواء، محزنة ومذلة هذه الأسماء. وسقيم -…

غزة تنتقل إلى لبنان

الثلاثاء ٢٤ سبتمبر ٢٠٢٤

كانت حرب الفيتنام أكبر كارثة حلّت بالولايات المتحدة منذ الحرب العالمية. ومع ذلك لم يتردد الرئيسان، ليندون جونسون وريتشارد نيكسون، في تعمّد تمديدها بسبب الحسابات الانتخابية، وعلى مرأى من العالم أجمع، كلاهما كان متورطاً في أزمات أخلاقية يريد تغطيتها بانتصار سياسي. يكرر نتنياهو الفعلة نفسها لكي يغطي فضائح الفساد التي تلاحقه، ويشرك معه، بكل علانية، مرشحي الرئاسة الأميركية. وبينما يتفق أو يتواطأ جميع الأفرقاء على هذا الموقف اللاأخلاقي، تدور المعارك السياسية في أميركا وإسرائيل وكأن العالم في موسم انتخابي عادي. يتجاهل الأطراف الثلاثة، في تحدٍ مخيف، نتائج الصراع المباشرة فيما بينهم: آلاف الضحايا والمعذبين المدنيين، ما بين غزة والضفة ولبنان، ولا نعرف متى غداً أو بعد ساعات. يوسع نتنياهو حربه فيشجعه دونالد ترمب بكلام لا يقوله العقلاء: إذا لم أنجح في انتخابات الرئاسة، هناك خطر حقيقي على وجود إسرائيل! أعلن مائة سياسي جمهوري بارز انضمامهم إلى الحزب الديمقراطي، وتأييد كامالا هاريس «لأن سلوك ترمب وكلامه لا يليقان بالرئاسة». هذا أعمق كلام قيل حتى الآن في وصف المستوى الذي انحدرت إليه معركة الرئاسة في كل جبهاتها وعناصرها، من واشنطن إلى تل أبيب. ضاعت الفرصة التاريخية أمام جو بايدن في اتخاذ موقف تاريخي حيال كارثة غزة، ورأى فيها نتنياهو فرصة لنشر الحرب والجنون في كل مكان. ها هي غزة تنتقل إلى لبنان.…

قد يرن «البيجر» ولا يُجيب

الخميس ١٩ سبتمبر ٢٠٢٤

التقنية مثيرة. التآمر متقَن. والعملية برمّتها غير مسبوقة في هذا النوع من الحروب، لكن الأهم من كل ذلك هو الرجل (أو المجموعة) الذي اتخذ القرار باغتيال 5 آلاف شخص. فرداً فرداً. الحقيقة أن غير المسبوق هو القرار بمجزرة جماعية، ليست أقل حجماً من المجازر الجماعية، أو الكيماوية، لكنها أكثر لؤماً. لا يزال صاحب قرار المجازر واحداً: في مستشفيات غزة، أو في مخيماتها، وصولاً إلى فن الاغتيال الجماعي بـ«البيجر»، المصنوع في تايوان، والمفخخ على الطريق. بدأ نتنياهو عام الحرب هذا في أقصى درجات العنف. دمّر غزة، وشردها داخل حدودها الصغيرة، وأمر الغزيين بأن يدوروا حول أنفسهم محمَّلين بفقرهم وركامهم وأكفانهم. ومَن رفض من رجاله سلوك الفظاعة والعنف والقسوة، أقاله، أو أزاحه. بدأ حربه في جنوب لبنان في المواقع والمواضع، لكنه ما لبث أن مدَّها من الجنوب إلى البقاع، وتمدد بها يوم الثلاثاء إلى كل لبنان، وفي محاولة قتل جماعي أعمى، كما في غزة، ولكن أكثر تنكيلاً وتعميماً وتجاهلاً لما تُبقي عليه الحروب من بقايا القواعد والأخلاقيات. صاحب القرار كان يعرف سلفاً حجمه وآثاره وانعكاساته ووقعه على العالم أجمع. ولذلك حرص على أن يبدد من خلاله كل احتمالات الانفراج، أو الهدنة، أو ما سُميت «الصفقة»، التي يستعيد بموجبها «فريق رهائنه». الذي حدث أنه نقل جبهة الحرب من غزة إلى لبنان، أو إلى…

ضحّاك الصحافة

الثلاثاء ٠٣ سبتمبر ٢٠٢٤

لم تُصنّف الصحافة فناً من الفنون، وبقيت إلى زمن طويل حرفة يحترفها من يشاء، أو من استطاع. وغلب عليها في البدايات أنَّها مهنة «الصيّاع»، والذين بلا عمل أو مستقبل. وندر الناجحون فيها قبل تحولها إلى صناعة تعمل بقوانين الربح والخسارة. حتى بعد نشوء المعاهد والكليات، ظل مفهوم الصحافة بلا قواعد ثابتة. وامتلأت المهنة بحملة أقلام موسميين، أو عابرين يتركونها أمام أي فرصة أخرى، كما يتركون مقعدهم في المقهى، إلى مقهى آخر، وشلة أخرى. برغم هذه الفوضى، ظل لها نجومها وكتّابها. وثمة فارق جوهري بين كاتب الصحافة، والفئات الأخرى من المؤلفين. عمله معرّض بطبيعته لفترة حياتية لا تدوم طويلاً. روايات نجيب محفوظ لن تشيخ، لكن العشرات من صحافيي زمانه زالوا مع الحبر اليومي. هم وأحداثهم وقضاياهم. أكتب هذا الكلام في ذكرى محمود السعدني، الذي كان يملأ مصر ضحكاً وصخباً وسخرية. وكانت لذعاته تُتداول في الشارع والمجالس. وقد أدخلته نكاته «التاريخية» السجن، وأرسلته إلى المنفى. وتفترض الناس في بلادنا أن تكون شخصية الكاتب الساخر مضحكة هي أيضاً. وكذلك كان السعدني. لكن القلم الساخر والرجل الساخر، حجبا صورة الصحافي الساخر. قبل هذا وذاك، كان صحافياً بألف موهبة. صحافياً خارق الملاحظة، جدّي البحث، وفيه أستاذ كبير. الساخرون قلائل في هذه المهنة. في كل مكان. فالسخرية عملية شاقة وحبرها قليل. الذين يستمرون فيها حتى النهاية…

بئس

السبت ٣١ أغسطس ٢٠٢٤

يتطلب الحديث عن أخبار بعض كبار السياسيين في العالم، الاعتذار المسبق عن آداب النشر، ويشبه ذلك التحذير الذي يوضع في مقدمة الأفلام من أن بعض المشاهد خارجة عن القاعدة. أعتذر سلفاً عن التوقف عند كتاب جديد يحمل اسم الرئيس الأميركي «دونالد ترمب»، يروي فيه أن رئيس وزراء كندا، جاستن ترودو، ليس ابن والده الراحل بيار إليوت ترودو، وإنما هو الابن غير الشرعي للزعيم الكوبي فيدل كاسترو. وينسب إلى والدته مارغريت ترودو قولها إن كاسترو هو الزعيم الأكثر جاذبية في العالم. وفسَّرت «الديلي ميرور»، التي كشفت عما جاء في الكتاب، صورة لكاسترو يحمل بين يديه الطفل ترودو. ويقول رئيس أميركا السابق، والمرشح للرئاسة المقبلة، إن مارغريت ترودو أقامت علاقات بجميع أفراد «الرولينغ ستونز»، وخصوصاً أشهرهم مايك بيغر. كل من كان في سن الوعي والمتابعة في السبعينات، لاحق أخبار المسز ترودو وخلاعتها. وشعر العالم بالحزن للإهانة التي تعرض لها واحد من أهم رجال الدولة في العالم. وتألم الكنديون جميعاً من سلوك المرأة الشابة. وأعلن الرجل التاريخي طلاقه منها، ليعيش وحيداً كئيباً. وتضاعف حزنه عندما خرج ابنه الأكبر، سرج، في رحلة صيد بحرية ولم يعد. بينما كبر الابن الثاني جاستن، ليصبح رئيساً للوزراء. معظم التفاصيل التي عاد إليها ترمب، بعد 50 عاماً، صحيحة. وأكثرها معروف. وكلها مهين لأشهر عائلة في تاريخ كندا. ولأي…

موضوعنا اليوم

الأحد ٢٥ أغسطس ٢٠٢٤

يبحث الصحافي عن مواضيع للكتابة في كل مكان. ويعثر عليها في كل مكان. لكن عليك دائماً الهمّة والمهمة. فهي غالباً لا تأتي إلى أحد، ولا تتساقط من أغصان شجرة تستلقي تحتها. عرفنا في لبنان في القدم جماعة من الرحّل يسمّون النوَّر، أو الغجر. كانوا يتنقلون من مكان إلى مكان، يضربون خيامهم حول الدساكر أو القرى، يغنون ويعزفون الربابات ويرقصون ويصادقون أهل الجوار المؤنث، لكن يرفضون التزاوج من خارج العرق. ويرفضون تسجيل ولاداتهم في أي مكان. سمّوهم في سوريا «أهل طبل وزمر»، ولهم جالية كبيرة في الأردن. كان النَّوَر مثار حكايات كثيرة بسبب نهجهم الغريب في الحياة. وفي أوروبا كانوا جزءاً من الحياة الفنية والشاعرية والبوهيمية. وأيام كنا لا نزال نمارس الانتحار بالتدخين، كانت في فرنسا سيجارة «جيتان» بعلبتها الزرقاء وتبغها الأسود. وكانت هذه سيجارة الشعراء والفنانين والبوهيميين ومساطيل مقلديهم. كان أكبر ندم في حياتي ما أضعت من وقت، والندم الأكبر والأعمق، كان سنوات التدخين. جدتي التي لا تقرأ كانت أكثر حكمة بألف مرة: يا ستي عم تحرق جسمك وفلوسك. لم نأخذ كلامها على محمل الجد، إلا عندما ملأت يقظة العلم أرجاء الأرض حول الإدمان الشرير. كانت خرافة السيجارة من صنع ضحايا. ومنها أنها تحمل في رمادها الإلهام. وكان حظ أدعياء الكتابة أن كل ما منحتهم السيجارة علل الصدور واصفرار الأسنان،…

الهندية الأولى

الخميس ٢٢ أغسطس ٢٠٢٤

كان من أهم أوجه الشبه بين الأنظمة «الاشتراكية» و«الديمقراطية» توافر الفرص لدى الاثنين. وكانت هذه المسألة خاصة موضع نقاش شهير بين الزعيم السوفياتي نيكيتا خروشوف، ونائب الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون عام 1959 في موسكو، في جدل عرف باسم «حوار المطابخ»، لأنهما كانا يتباريان في جناح المطابخ من المعرض الدولي. كان الأداء متوازياً تقريباً، بين السوفياتي، الذي تطور من راع إلى زعيم البلاد، والأميركي الفقير الذي أصبح نائباً للرئيس (لاحقاً الرئيس). أعادت كامالا هاريس ذلك المشهد إلى الأذهان وهي تروي، تسبقها ضحكتها الرنانة، كيف عملت – فيما عملت – في مطعم ماكدونالد. وفي بلد هو أم الرأسمالية، انهالت التبرعات بالملايين خلال أيام على فتاة «الهامبرغر» السابقة، بدا وكأنها سوف تهزم أكبر تاجر عقارات في أميركا. فلنكرر: امرأة، سمراء، مهاجرة، فقيرة، ماكدونالد، ثم كاسحة الرؤوس والأحزاب. ماذا، ومن أنهت كامالا هاريس؟ إلى لحظة ترشحها، كانت معركة الرئاسة الضارية بين عجائز، وليس بين عجوزين فقط. وإذ اقتحمت ميدان السباق مثل فرس جامحة، حدث في واشنطن تماماً، ما حدث في موسكو من قبل: فليعلن المتقدمون في السن إخلاء المواقع للجيل التالي. هاريس، أشبه بميخائيل غورباتشوف، الذي جاء بعد سلسلة من رجال الهزيع الأخير. ذلك كان التقليد حتى لو لم يدم عهد الرئيس الجديد أكثر من عام، أو أقل. بعد بوتين، اعتاد الروس الجدد أن…

مسطحة!

الأربعاء ٢١ أغسطس ٢٠٢٤

طوال عامين كان العالم يتابع صباحاً ومساءً وما بينهما، أخبار الحرب في أوكرانيا. وأصبحنا نلاحق أخبار مدن لا نعرف أين تقع، وأنهر لا نعرف أين تنبع ولا أين تصب. وذات يوم أفاق العالم المشار إليه، فسمع فلاديمير بوتين، الذي لا يطيق المزاح، يتحدث عن السلاح النووي. وتبعه وزيره الأول سيرغي لافروف، فرفع المسألة إلى حرب نووية. وفي الغرب كان السياسيون والمعلقون أكثر دقّة، فوضعوا الكرة الأرضية على حافة حرب عالمية ثالثة، ورفضوا إنزالها. ويبدو أن السبب (الرئيسي) أنهم اقتنعوا مع الفنان محمد صبحي، أن الأرض مسطحة، إن لم تكن كلها، فجلها كما قال البلغاء. تعودت أن آخذ كل شيء على محمل الجدّ، وخصوصاً أقوال محمد صبحي، لأنني مقدّر كل التقدير أعماله الخيرية. ومن أجل ذلك، فلتنسطح الأرض حتى تنقلب. المفروض أن الحرب مأساة، سواء في الدونباس أو فيما بقي من السودان، أو في غزة. لكن وحشية حرب غزة أزاحت أخبار أوكرانيا (ومعها السودان)، من الصحف والتلفزيونات، والإنترنت، بحيث خيّل إلينا أنها انتهت، وأن الجميع يستعد لأخذ مكانه حول طاولة سلام مستديرة، يدقق محمد صبحي في درجات استدارتها. حرب تمحو أخرى. فقدت حتى الفضول العابر في البحث عن أي خبر قادم من بلاد الأوكران، مع أن الحرب مستمرة هناك بحراً وجواً ومباني وقفاراً، وأطفالاً وآلاف الضحايا. طبعاً وحشيات غزة صغّرت حجم…

انكشاف 180 درجة

السبت ١٧ أغسطس ٢٠٢٤

بعد حرب 1948 البدائية، وحرب 1967 التي ربحتها إسرائيل دون أن تخوضها، وحرب 1973 التي ربح العرب نصفَها وخسروا نصفها، لم ينكشف لنا شيء من إسرائيل. ظلَّت قلعة عسكرية غامضة وأسطورية. بلد حرب الأيام الست، وموشيه دايان جنرال الحرب العالمية الثانية، وعلامته الفارقة: العين المفقودة التي تزيد الصورة بطولةً وغموضاً. ظلَّت إسرائيل وراء أسوارها الوهمية والحقيقية، دولة أوروبية متقدمة، تزرع الخضرة في الصحاري، وتطور طائرات «الفانتوم» لكي تبيعها للصين، وتتحكم في سياسات أميركا في الداخل والخارج، وتمارس في برلمانها وصحافتها حريةً لا يعرفها العرب. وصورة العرب وحقيقة بعضهم، كانت في المقابل معتقلات وأقبية وموتاً حتى من دون إفادة غياب. مرة واحدة انكشفت حقائق 70 عاماً. إنَّها تعذّب السجناء، وجنودها يعتدون عليهم. ورئيس وزرائها مطلوب أمام المحكمة الدولية. وفي واجهة رجالها كائن يدعى بن غفير يشغل منصب وزير الأمن، ويضحك مثل المخلوقات البحرية. مرة واحدة كشفت إسرائيل عمَّا فيها. ليس أمامنا، بل أمام الذين بقوا أحياء من ضحايا أوشفتز. كشفت عن عدد الأجنة الذين قتلوا في أرحام أمهاتهم. واتَّضح أيضاً عدد الكتّاب والسياسيين والأكاديميين اليهود الذين يخجلون من انتمائهم إلى دول تفتك بالأطفال مثل أفلام الرعب. خسرت إسرائيل حرب الوجه. تساقطت الأقنعة وقحة مثل ورق التعرية. من يقرأ صحيفة «هآرتس» المعارضة، سوف يعتقد أنَّها تصدر عن حركة «فتح»، عندما كانت في…

مدن الصيف… الحرب

الإثنين ٢٩ يوليو ٢٠٢٤

عام 1975 بدأت الحرب الأهلية في لبنان. اكتشفنا فوراً أن الرصاص والمدافع أرحم الأشياء في الحروب، وأن الوحش الكاسر أرحب من الطباع الدنيئة. جلست أفكر في أبعد موطئ هجرة عن لبنان، واكتشفت أن ذلك ليس كافياً؛ فقد سبقني مواطنيَّ الأعزاء إلى بلاد الإسكيمو، وأشهرهم محمد خباز، الذي صار في «يللو نايف» بيتر بيكر، وعاش حياته وضيوفه على أكل السمك القطبي، غير أنه لا بد أن عرف نوعاً غير بحري من الطعام، عندما كرمته الدولة الكندية، وكرّمت سنوات صموده في بلاد الليالي البيضاء والجليد الأبدي، وعينته عضواً في مجلس الشيوخ، فانتقل السيناتور بيتر بيكر، محمد خباز سابقاً، إلى العاصمة أوتاوا، تاركاً العصر الجليدي لأهله ودببه العملاقة والسمك. كنت كئيباً وخائباً بلبنان، وتدهورت حالتي النفسية، ولم أعد أريد شيئاً سوى السفر. لكن ليس إلى أي مكان، بل إلى مكان ليس فيه لبنانيون. ومن أين نأتي لك يا مولود بلاد الأرز، ببلد لم يصله مواطنوك؟ وأنت لك أبناء خال في ميشيغان، وأبناء عمومة في البرازيل، وخالة ذات جمال ملكي في بوينس آيرس، كما تدل الصورة التي تحتفظ بها أمي، صبية لحقت «بنصيبها» إلى الجهة المقابلة للقطب الذي وصله المستر بيكر، لاحقاً السيناتور بيتر. لم أفكر في الأرجنتين. صحيح أنها على حافة الأرض، لكنها مليئة باللبنانيين. والآن أنا بحاجة إلى شيء من مصحّ، مكان…

السيد النائب

الخميس ٢٥ يوليو ٢٠٢٤

ينتقي مرشحو الرئاسة الأميركية نائبيهم غالباً من المجهولين وفاقدي الأهمية لكي تبقى صورة الرئيس هي الطاغية في البلاد. أحدث هذه الأمثلة، كانت السيدة كامالا هاريس، التي لم تكن معروفة إلا عند أصدقائها المباشرين. لكن عندما يتدخل القدر تنقلب الأشياء تماماً، كما حدث عند اغتيال جون كيندي، وأصر نائبه ليندون جونسون على أن يقسم اليمين على الطائرة التي تحمل جثمانه وفستان أرملته لا يزال مبللاً بدمائه. القدر قد يتدخل مرة أخرى، ويجد الحزب الديمقراطي نفسه في مأزقين: الوقت الضيق، والمرشحة الضعيفة. بينما اختار المرشح الجمهوري نائبه وكأنه يبني سلالة جديدة تستمر من بعد بكل مواصفاته الشخصية والسياسية. ترحل أميركا برمّتها مع ترمب نحو اليمين. وما من أحد قادر على التكهن إلى أين يمكن أن يصل الرجل. ومقابل التخوف من تطرفه، هناك احتمالات شديدة أن يكون قادراً على تحقيق انفراج عالمي مع روسيا. وخلال رئاسته كان على وشك أن يلتقي كيم جون أون، مطيّر الصواريخ الشهرية، لكن الذي عرقل اللقاء كان الزعيم الكوري. لا يمكن إغلاق باب المفاجآت. قد تحدث معجزة ولا يكتسح ترمب الحقل الذي تركه بايدن مبعثراً. ولكن الصورة الواضحة الآن هي أن الجمهوريين في مهرجان، واليمين في أنحاء العالم، يستعد للانضمام إلى ماذا؟ الاتفاق النووي الذي مزقه ترمب أصبحت نتائجه على الأبواب. ووزير خارجية أميركا يعلن أن القنبلة الإيرانية…

إغواء المريخ

الإثنين ٢٢ يوليو ٢٠٢٤

يحمل الدكتور غسان سلامة سيرة أكاديمية نادرة في العالم العربي، وخبرة دولية حافلة، يضاف إليهما منصبه وزيراً للثقافة في لبنان، يوم كانت مهمته الأهم إعداد مؤتمر القمة العربي الذي حمل مبادرة المملكة العربية السعودية لقيام الدولة الفلسطينية. ودرّس سلامة العلوم السياسية طوال ثلث قرن في الجامعة الأميركية (بيروت)، والجامعة اليسوعية، وفي معهد العلوم السياسية في باريس، حيث كان أشهر تلامذته شاب يدعى إيمانويل ماكرون. وعمل مبعوثاً خاصاً للأمم المتحدة في العراق وليبيا وغيرهما. منذ أسابيع صدر للدكتور سلامة كتابه الثالث عن «وضع العالم» كما رآه وعايشه، دبلوماسياً وأستاذاً، بعنوان «إغواء المريخ». ولا يترك بقعة نزاع من بقاع الأرض من دون أن يتناولها بجهده البحثي الصعب. يتهيأ لي أن غسان سلامة هو توأم أمين معلوف في عناصر شتى: كلاهما حقق نجاحه في فرنسا، وباللغة الفرنسية. كلاهما نقل قضاياه وقضايا العالم أجمع إلى المسرح الإنساني العالمي. كلاهما كتب باللغة العربية قبل الفرنسية. كلاهما جاء من بيئة ثقافية واحدة في لبنان. وكلاهما جعل الهوية الإنسانية قاعدة للكتابة، بل هما من مواليد عام واحد 1949. ليس من بلد تكاثرت فيه الهويات، وتزاحمت وتقاتلت مثل بلدهما. والصراع على الهوية هو الذي نقلهما إلى فرنسا خلال حرب لبنان، حيث اتخذ كل منهما موقعه في الحقل القادم منه: واحد في الرواية والعمل الأدبي، والآخر في علم السياسة…