ذلك الرجل، يقطف من شجرة حياته ثمار البقاء، لصغار فتحوا أفواهاً، في انتظار ما يأتي به النهار، وتعود به اليد المعروقة، كداً وتعباً، وفي المساء، وربما قبل ذلك يهطل المطر على يدي رجل شد الوثاق، وجاء بالحمل الثقيل على هودج الصبر، وبين اللفيف يجلس متربعاً عرش المسؤولية والالتزام، يجول بالناظرين هنا في البيت، يمسد رأس الأصغر ويمهد ظهر الأكبر، والأبناء سواسية عند ركبتيه، مثلما تفعل فراخ الحمام، وبينما تكون الأم في مطبخ الحياة، يتبوأ الرجل منصب الحكاية ويروي ما جاش في خاطره من دروس، ويقص ما صادفه من مشاهد، بينما الصغار منتبهون غير لاهين، عيونهم مثل نجوم تضيء وجه الأب، ينصتون للحكاية، مستغرقين في بسط نفوذ الأحلام، مستأنفين التلقي باهتمام أبلغ من صمت الطيور لسماع وشوشة الموجة.
في الزمن الجميل كان للرجل دفة من خلالها يقود المرحلة، ويمضي بالقارب بعيداً عن رياح الشمال، وقريباً من سواحل الأمان، كان يغسل مشاعر الأبناء بمنظف اسمه الحضور الدائم في مشهد العائلة، كان يكنس غبار الجفاء والفجوات بمنشفة الحضور، ورسم الصورة المثلى لأب لا يغيب حتى في وجوده في المسافات البعيدة.
في الزمن الجميل، كان للأصوات رنة الناي في جلسة العشاق، وكان للوجوه سحنة السحابة الممطرة، وكان للعيون بريق الأفق، وبرتقالة الشمس وهي ذاهبة إلى مكانه الأنيق في قلب الكون.
في الزمن الجميل، هناك صيحة ذاكرة لم يثقبها ضجيج ولم يعمرها عجيج، هناك كان يمكث تاريخ، مزين بأحلام الناس الطيبين، مزهى بأغنيات رجال لم يغادروا المرحلة، ولم يتسببوا في الفراق والابتعاد عن مسؤولياتهم الأخلاقية، وهناك رجال لم تغرق قواربهم موجات الفجر، ولم تخيط ثيابهم بالمقلوب حائكات النواصي المتطرفة، بل كانوا يخطون على الثرى بتؤدة وسلام، يملأهم الحب، فيفيضون به ويهبونه للأبناء، وهكذا تستمر القافلة محملة بزاد الحياة الجميل، ذاهبة بالمعاني النبيلة إلى العالم بكل ثقة وثبات.
في الزمن الجميل، كان الأب مثالاً، واليوم تمثالاً، كان نموذجاً، واليوم طائرة ورقية تعبث بها رياح نسيان الدور والمهمة.
في الزمن الجميل، كان الابن يضع (غترة) الأب على رأسه مقلداً منتمياً إلى النموذج والمثال، واليوم قصة الشعر الحلزونية، لا تسمح بذلك وإلا ضاعت مهمة التجوال أواخر الليل وفي منتصف الطرقات المبهرة.
في الزمن الجميل، كانت البناطيل ممزقة لضيق الحال، واليوم ممزقة بفعل فاعل، أراد فقط التباهي وتحطيم ثوابت الزمن.
في الزمن الجميل، كان للابن كلمة، وللأب كلمات، ولا تصادم بين المنطقتين، اليوم رفعت الأقلام وجفت الصحف، ولم يبق غير الصمت ومتابعة المشهد، والصدمة تحرك مكامن القلب.
المصدر: الاتحاد