كان جمدار عبد الحافظ أول جندي مسلم في الجيش الهندي يُمنح وسام صليب فيكتوريا في الحرب العالمية الثانية. في عام 1944، أثناء قتاله شمال إيمفال، قاد فصيلته، وهو جريح، إلى أعلى تلة واستولى على مدفع رشاش ياباني. كانت قيادته عميقة وشجاعته عظيمة، لدرجة أن جيش العدو فرّ من ساحة المعركة، وقد مُنح وسامه بعد وفاته.
بينما تستعد المملكة المتحدة وأوروبا للاحتفال بالذكرى الثمانين ليوم النصر في أوروبا يوم الخميس، سيستضيف نائب رئيس الوزراء يوم الأربعاء معرضًا بعنوان “الإيمان العظيم: قصص تضحية وعطاء”، حيث سيُعرض جمدار كواحد من ثمانين لوحة تغطي السنوات الثمانين الماضية، تُصور مسلمين دافعوا عن بريطانيا وقيمها. يدعو المعرض للتأمل في الإسهامات الجليلة التي قدمها المسلمون لأمتهم، والتي تجسدت في كثير منها بالتضحية البطولية التي وصلت إلى درجة بذل أعظم التضحيات.
تُعتبر بريطانيا منارة للتنوع والتسامح. ومع ذلك، تُذكرنا النقاشات الأخيرة حول الهجرة بالتحديات الملحة التي نواجهها. تتطلب الدول الحديثة رابطة انتماء تتجاوز العرق والمعتقد والخلفية. بصفتي مواطنًا في دولة الإمارات العربية المتحدة — بلد متنوع تعيش فيه ثقافات متعددة في أمن وأمان واحترام متبادل — فقد شهدتُ عن كثب أن المواطنة الشاملة ليست مجرد طموح، بل هي ضرورية وقابلة للتحقيق.
بالنسبة للمسلمين البريطانيين، هذا الحوار ليس أكاديميًا فحسب، بل مصيري. ففكرة المواطنة الشاملة متجذرة بعمق في التراث الإسلامي. لطالما جادل والدي، الشيخ عبد الله بن بيه، الفقيه والعالم المشهور، بأن المواطنة ليست علاقة تبادلية، بل هي عهد يتأسس على مسؤولية متبادلة. ذلك أن إسهاماته في الفقه الإسلامي — ولا سيما من خلال مبادرات مثل إعلان مراكش (2016)، وإعلان أبوظبي حول المواطنة الشاملة (2021) — تبرز التزامًا أخلاقيًا ودينيًا لدى المسلمين بالتعايش السلمي، وصيانة حقوق الآخرين، والإسهام الإيجابي في المجتمعات التي يعيشون فيها.
يُعد إعلان مراكش، الذي تبنته منظمة التعاون الإسلامي، بيانًا رائدًا يدعو إلى حماية الأقليات في الدول ذات الأغلبية المسلمة. ويُقر بأن المواطنة الحديثة يجب أن تقوم على المساواة وحرية الدين وكرامة الإنسان، وهي مبادئ منسجمة مع التعاليم الإسلامية. ويحمل هذا الإعلان أهمية بالغة بالنسبة للمسلمين الغربيين.
إن تأكيد القرآن الكريم على كرامة الإنسان يرفض النظرة الضيقة والخاطئة التي ترى أن الهوية الإسلامية تتعارض بطبيعتها مع العالم الحديث والمجتمع غير المسلم. بل ينظر الإسلام إلى التعددية بوصفها جزءًا من الإرادة الإلهية، والمشاركة المدنية بوصفها عملاً من أعمال الإيمان. لذلك، نحن بحاجة إلى رؤية لمواطنة عالمية شاملة، قائمة على الانتماء، لا على مجرد وضع قانوني، وعلى رؤية للهوية متعددة الأبعاد وليست جامدة.
بالنسبة للمسلمين البريطانيين، تعني المواطنة الشاملة التحرر من عقدة الضحية، والإسهام الكامل في الحياة العامة على جميع المستويات (بما في ذلك القوات المسلحة)، والدفاع عن حقوق الجميع، وتشكيل مستقبل بريطانيا بثقة والتزام. هذه هي قصة جمدار وتضحيته من أجل بريطانيا وشعبها ورؤيتها للعالم. هذه الرؤية لا تتعلق بالاندماج أو محو الهوية، بل بتعددية فعالة حيث يكون التنوع قيمة مضافة للمجتمع. ليس الإسلام والهوية البريطانية في حالة من الاحتدام، وإنما بإمكانهما، بل يجب عليهما، أن يتكاملا ويغذيا بعضهما بعضًا.
هذا النهج، المبني على أسس لاهوتية ، لكنه منخرط اجتماعيًا، يدعو المسلمين إلى اعتبار أنفسهم شركاء في صياغة الهوية البريطانية المتطورة، مسخرين تراثهم وأخلاقهم ومواهبهم لمواجهة تحديات عصرنا، سواء في خدمة المملكة المتحدة، أو في التعامل مع الذكاء الاصطناعي، أو في معالجة الفقر، وتغير المناخ، والظلم الاجتماعي، أو في بناء التفاهم بين الأديان والثقافات.
هذه الرسالة تتحدى أي ضعف في بريطانيا بوصفها مجتمعًا؛ إذ لا بد من مواجهة الأيديولوجيات الدينية المتطرفة التي لا تمت بصلة للدين الحق، بل دائمًا ما تكون مدمرة اجتماعيًا. كما يجب علينا أيضًا مواجهة الإسلاموفوبيا وغيرها من مظاهر الكراهية الدينية بجميع أشكالها، ليس فقط في تعبيراتها الفجة، ولكن في مظهرها الإقصائي والعقبات الخفية التي تُفرض أحيانًا على انتماء المسلمين. إن المواطنة الشاملة تقتضي النأي عن عقدة الحصار، نحو روح الثقة والاعتراف المتبادل والمصير المشترك.
تُذكرنا آية قرآنية مشهورة بأن التنوع ليس تهديدًا، بل نعمة:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: 13].
إن مهمة المسلمين البريطانيين هي تجسيد أسمى قيم دينهم في الفضاءات العامة، كالمحبة والرحمة والعدل. ومهمة بريطانيا هي ضمان أن يشعر جميع مواطنيها بأن صوتهم مسموع ومقدرون حق التقدير.
المواطنة الشاملة ضرورة لتماسك وازدهار بريطانيا الحديثة. وبالنسبة للمسلمين، فهي ليست تنازلاً عن الإيمان، بل هي تحقيق له. يُسهم المسلمون البريطانيون بالفعل في كل جانب من جوانب الحياة الوطنية: هيئة الخدمات الصحية الوطنية، وقطاع الأعمال، والخدمة العامة، والفنون، والأوساط الأكاديمية، بل وحتى الشرطة والقوات المسلحة. وبفضل العمل المشترك والاستفادة من الأمثلة القيمّة لأشخاص مثل جمدار عبد الحافظ، يمكننا ضمان استمرار هذا الإسهام في التعمق، وإثراء تاريخ بريطانيا للأجيال القادمة.
الشيخ المحفوظ بن بيّه هو الأمين العام لمنتدى أبوظبي للسلم، وله تواصل مع الجالية المسلمة في المملكة المتحدة.
نقلاً عن صحيفة The Times البريطانية