أشياء صغيرة في رمضان تكبر. أولها العمر، فيبدو المرء في هذا الشهر، مثل طفل لم يزل يبحث عن اسمه في الأبجدية. وتبدو شفتاه تصطدمان ببعضهما، كي يخرج الحرف الأول لاسم الأم، ثم الأب.
يبدو الطفل الأذكى ضمن مراحل العمر التي يمر بها الإنسان، لأنه يختار الأم أولاً كما جاء في العقيدة الدينية الحنيفية أن الجنة تحت أقدامها.
وتتطور الأشياء الصغيرة، وتتدحرج خلال سنوات العمر، وتصبح بحجم تطلعات الإنسان، وطموحاته، ولكن.. في رمضان بعض هذه الأشياء، يظل محافظاً على سنواته الأولى، وهي سنوات البريق، والبراءة، والعفوية، والأحلام الزاهية، والابتسامات الشفافة الرقيقة، واللغة الغريبة لتراكب وتراكم الكلمات على بعضها لتبدو مثل اللغة الهيروغليفية.
أشياء صغيرة في رمضان تبقى كما هي، ومن أهمها المشاعر، تلك السيول المائية القابعة في القاع، في منطقة اللاوعي، وما بعد الواقع.
هذه المشاعر التي لم تتلون بعد، ولم يلحقها الصدأ التاريخي، ولم تخدشها أظافر الزمن، ولم تصطدم بعد بقطار المراحل السريعة. أحياناً، وبالذات في وقت المساء، تطفر دمعة من عينيك، لمجرد تذكر موقف معين أو وجه ما أو مكان. تظل تفكر ما الذي جاء بهذه الصورة الآن وفي هذا الشهر؟ لن تستطيع التفسير، حتى ولو اطّلعت على مراجع في التحليل النفسي أو راجعت ذاكرتك لاستدعاء ما تحفظه من مسلّمات علم النفس، في هذه اللحظة لن تتمكن من استدعاء الفكرة الصحيحة، لأنك ستكون غارقاً في ذكريات ما وأحداث ربما نسيت تفاصيلها، ولكن أثرها يبقى صامداً في العقل مثل الكدمات القديمة في الجسد.
أحياناً تشعر أنك بحاجة للبكاء، وتتمنى وجود ذراع توسد رأسك عليه لتنتحب وتبكي بغزارة، حتى تنفض الغبار من صدرك.
في هذه اللحظة، لو شاهدتك الزوجة الحنون سوف تنتفض، وتسقط على رأسك أسئلة بحجم الأحجار التي تنسل من قوسي النشاب، وسوف تحاول التبرير، والبحث عن وسائل دفاع مجزية، تدفع عنك ضراوة الهجوم المباغت. وتقول في نفسك، هذا هو الفارق الشاسع بين حضن الطفولة وحضن الآن. حضنان أحدهما يسكنك الجنة، والآخر يأخذك إلى الجحيم.
وتحت وابل الأسئلة حامية الوطيس، تسقط أنت في صهد مشاعر تختلط فيها الأحزان بالحنين، ومع تغيب الزوجة عن ساحة المعركة، تبدأ أنت في استعادة وعيك والعودة إلى البداية، بداية الجولة في ربوع رمضان، وما يكتنزه من صور ومشاهد، كل ما تفعله هو أنها تجلب لك الطفولة برسومها المتحركة الملونة والزاهية.
المصدر: الاتحاد