كاتبة وروائية سعودية
دوماً تخلف الحروب أحزاناً كئيبة متشابكة، مُرة، تفسد العقل والروح، ولا يمكن لها أن تترك فرحاً أو نوراً يتسرب خلسة أمام أعيننا، الحروب وحدها من تترك ندوباً لا يمكن أن تُمحى إلا إذا اتجهنا نحو الموت بشهية كبيرة، فلا يزال على سبيل المثال التاريخ والإعلام يعيد إلينا صوراً عديدة لمعنى الموت حينما يملأ المكان والشعور، تماماً مثلما حدث لمدينة هيروشيما، حينما قامت الولايات المتحدة بشن حرب نووية على الإمبراطورية اليابانية، في نهاية الحرب العالمية الثانية في أغسطس 1945، وتم قصف مدينتي هيروشيما وناجازاكي باستخدام قنابل نووية، بسبب رفض تنفيذ إعلان مؤتمر بوتسدام، وكان نصه أن تستسلم اليابان استسلاماً كاملا من دون أي شروط، وهل من الممكن أن ننسى مثلاً مجزرة صبرا وشاتيلا، أو الهجوم الكيماوي على المدينة الكردية حلبجة، وأخيراً، الهجوم الكيماوي في أغسطس 2013 على الغوطة التي تقع شرق دمشق، وراح ضحيته المئات من سكان المنطقة بسبب استنشاقهم غازات سامة، وأغلب الذين استشهدوا هم من الأطفال، لذا الطفل صاحب القميص الأحمر «إيلان كردي» ذو الثلاثة أعوام، الذي أبكى العالم، حينما وجدت جثته هامدة على شاطئ بودروم التركية، بعد أن قذفته الأمواج مع شقيقه غالب (5 سنوات) وأمه، على رمال شاطئ بحر إيجة، كانوا قد نجوا سابقاً من الهجمات التي شنها النظام السوري، إلى جانب جماعة «داعش» الإرهابية، واستطاعوا أن ينفذوا بأنفسهم من أن تقطع جثثهم بقنبلة أو صاروخ أو حتى بغاز سام، ليتلقاهم البحر وهم المنسيون، ويبلع أجسادهم ومن ثم يلفظها إلى الشاطئ بهدوء ورحمة، حتى إنني حينما طالعت الصورة لأول مرة، ظننت في بدء الأمر، أن الطفل الصغير الفاتن، لم يكن سوى في حال من النوم الهانئ بعد أن أنهكه اللعب بجانب الشاطئ، وعلى الأخص حينما تطلعت إلى قدميه الصغيرتين ووجدت الحذاء قد ربط بإحكام وبدا ملائماً لقدميه، حتى صعقت كما صعق كل من شاهد الصورة الحزينة جداً، إن هذا الطفل لم يكن سوى جثة، فصرخت وأنا أندب الظلمة والخوف اللذين تغلغلا إلى أعماقي، محاولة الخروج من نفق تراجيديا الحياة وظلم الحرب، هل يعقل لهذه الدرجة وصل بي الحال لدرجة الغباء، إنني لم أكتشف أن الطفل الوسيم لم يكن يلعب، ولم يكن يأخذ غفوة على الساحل بعد ساعات من اللعب، وإنما كان «إيلان» ضمن 23 مهاجراً آخرين، قالت الشرطة التركية إنهم أبحروا على متن قاربين صغيرين، من شبه جزيرة بوردون، في محاولة يائسة للوصول إلى جزيرة كوس اليونانية، حيث وصل آلاف اللاجئين في الأسابيع الأخيرة.
هذه هي الحرب مجرد تذكرة مجانية للموت، هي فرصة لأن تغادر الحياة من دون أن ترغب في ذلك، ومن دون أن تكون مستعداً لاستقبال الموت، فهو يأتيك بكل الأشكال التي لن تخطر في بالك مرة، المؤلم أيضاً ما ذكر ضمن الأخبار التي تدفقت بعد تسرب الصورة التي نشرت ظلالاً باردة وثقيلة على قلوب العالم أجمع، أن عائلة الطفلين «إيلان» و«غالب» وأمهما، كانت تواجه مشكلتين، على غرار آلاف اللاجئين السوريين الأكراد في تركيا، ذلك أن الأمم المتحدة لا تسجلهم كلاجئين، والحكومة التركية لا تعطيهم تأشيرات للخروج، وهنا المأساة التي على الأمم المتحدة أن تهتم بها، وهي تتحمل الجزء الآخر من كلفة الموت للاجئيين السوريين، وعليها يقع أن تحقق جانباً من العدل لهم.
لا أعرف وأنا أقرأ الأخبار التي غمرت المواقع والصحف، لماذا تذكرت المشهد الكوميدي للمذيعة التونسية «كوثر البشراوي»، وهي تظهر في القناة الرسمية السورية تقبل حذاء الجندي السوري، وفي مشهد آخر سابق كانت تبكي على موت الطفل الفلسطيني «محمد الدرة» ووالده، وكانت تندد بصوت عالٍ بالعروبة والهزيمة والأسى، وخيبات العالم أمام هذا المشهد المفجع، كيف يمكنها أن تقرأ مشهد «إيلان» وكيف يمكن أن يخرج صوتها، بعد أن قبلت الحذاء، تلك التي دفعت عائلة الصغير إلى الموت غرقاً من أجل اكتشاف حياة أخرى، أكثر هدوءاً واحتراماً للإنسان؟!
المصدر: صحيفة الحياة