في سبر القراءة جمال في المعنى ونبل في المفردة، حيث الكتاب الذي يقع بين يديك يصبح مثل وردة تشكل جمال العينين وتلون الروح ببياض الصورة، صورة العالم من حولك، فلا يشعر الإنسان بالتعاسة إلا عندما تغيب عن عينيه نجمة الكلمة وتطفئ الجملة مصابيحها، ويخيم الليل على كاهل الإنسان، وتصبح السماء مجرد قبعة بلاستيكية خاوية من اللون.. واليوم، ونحن نشهد تعاظم القناعة بأهمية القراءة والدور العظيم الذي تقوم به الدولة في تشجيع القراءة وورشات الفعل القرائي، كل ذلك يدعو إلى الفرح حيث المصابيح تفتح جداولها الضوئية، وحيث الصغار يتسابقون لأجل قطف ثمرة القراءة، وأول الثمرات انفتاح الوعي على العالم، وانسكاب الفكرة مثل زخات المطر على الأذهان والتخلص من الفراغ الرهيب، والتحرر من غابة الجهل، والانعتاق من وهدة العزلة بلا كتاب، وفك الاشتباك مع الصور الوهمية لوجوه الماضي، وما خلفته هذه الوجوه من خدع بصرية جعلت العالم ليس أكثر من عصاب قهري يفتك بالروح والجسد على حد سواء.
القراءة ليست ترفاً بقدر ما هي حاجة وجودية وضرورة حياتية، إن جفت جداولها تاه الإنسان في غياهب التعب النفسي، وضاعت بوصلة مراكبه في عباب بحور غامقة ولجج سوداء مخيفة.
القراءة مساحة واسعة من البياض، وتقيم على أرضها نفس مطمئنة، وتتعانق على فراشها مشاعر إنسانية نبيلة، وترتفع هامة الحب عندما يدرك الإنسان أن القراءة هي وسيلته للالتحام بالعالم، وهي طريقه إلى منابع السقيا، وهي يده التي تتتبع مواطن غزلان البرية، وهي حلمه الذي يزهر كلما عثر الإنسان على نفسه في كتاب أحبه، القراءة مثل المرأة إن أعطيتها حبك أثنت وانثنت وسكنت في الثنايا وتملكت قلبك وكل نبضة من نبضات قلبك.
فحب القراءة فضيلة بشرية، والالتحام بالكتاب كما هو تسلق الجبال من أجل لحسة عسل تذيب الملوحة من سطح اللسان.
عندما يسكن الكتاب بين يديك يسكن العالم في عينيك، وعندما تنفتح صفحة من صفحات كتاب تتفتح أزاهير الحياة في روحك وتكون أنت الحقل المزهر، أنت الجدول المبهر، أنت العالم مكثفاً في روح واحدة وجسد واحد.
القراءة افتتاحية صباحية لمؤتمر عالمي اسمه الحياة، والقراءة فيها نروض الداخل المحتقن، ونستأنس المخالب المتوحشة في العقل الباطن، والقراءة ترياق العالم وعلاجه الحقيقي من داء الجهل ومن جائحة الفراغات المبهمة، ومن معضلة العجز والتخلف، وإسفاف العقل وسفاهة النفس.
نحن بحاجة إلى القراءة كحاجتنا إلى قبلة تعيد لنا التوازن النفسي وتطرد عنا جفاف البيئة النفسية.
نحن بحاجة إلى القراءة كحاجتنا إلى شريك الحياة، يبعث علينا بالرحمة، ويمنع عنا الأحلام المزعجة، ويدفع عنا خيبات الوحدة.
فلنقرأ، فلعل في القراءة نجد أنفسنا ونعثر على تلك الذات المفقودة بعد ملايين السنين من السؤال الجوهري (من أنا ؟).
المصدر: الاتحاد