محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت
انفجرت في الكويت قضية سياسية ساخنة تمحورت حول ما يمكن أن يسمى «أشرطة القذافي» المسربة، ودار جدل كبير، وأظنه سوف يستمر لفترة، وقد تكون له مفاعيل سياسية مستقبلية. هذا المقال عن المستقبل وليس عن الماضي، ولكنه يركن إلى أحداث الماضي القريب ليحاول استخلاص العبر.
المشهد عربي والأزمة عربية (سياسية وفكرية وسلوكية) وليست فقط محلية، صلبها من جهة غياب المشروع الوطني المدني النهضوي الحديث، ومن جهة أخرى توظيف سلبي في السياسة لمعتقدات الأمة. يحدث التطور عند الأمم عندما يصبح الناس أحراراً في التفكير، وعندما يسجن الفكر يتحول المجتمع إلى الاستبداد، ولا أكثر وضوحاً من سجن الفكر إلا في فكر الإسلام السياسي بتعدده المذهبي. يمثل مدخل المشهد كتاب قرأته منذ فترة وكان بعنوان «أشرطة صدام: آلية عمل داخلية لنظام استبدادي 1978 – 2001» لمؤلفين هما ديفيد بالكي وكيفن وود، صدر عام 2011 واطلع المؤلفان وسمعا الأشرطة (صوت وصورة) التي تركها نظام العراق السابق بعد سقوطه، وهي تسجيلات للقيادة العليا من النظام. اللافت في المقدمة ما نقله المؤلفان من مقارنة بشخصيات استبدادية أخرى، حيث نشط الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية للبحث عن أشرطة سرية (غير الخطب العلنية) لديكتاتور ألمانيا أدولف هتلر، فلم يجدوا إلا نزراً يسيراً من تسجيلات، أما الاستبداديون العرب فقد دأبوا على تسجيل اجتماعاتهم حتى الأكثر سرية. هذه المقارنة لافتة، فشغف القذافي في التسجيل هو جزء من ظاهرة وليس استثناءً، كما هو تسجيل «الإخوان المسلمين» في السودان والذي نشر على شاشة محطة «العربية» التلفزيونية تحت عنوان «الأسرار الكبرى»، وسجل «الإخوان» السودانيون ومن زارهم مؤيداً ومباركاً ومبشراً بنصر كبير كل اجتماعاتهم السرية على أشرطة بالصوت والصورة وتركوها خلفهم لبيان فرقتهم عن الزمن، تلك التسجيلات جزء من عقلية الاستبداد.
القذافي كغيره من أنظمة الاستبداد، قام عنوة بالتسجيل، إما لشغفه كغيره بتسجيل مسيرته «الثورية»، أو على احتمال آخر لاستخدام تلك التسجيلات في ابتزاز من زحف إلى خيمته طوعاً. السؤال الأكثر أهمية هو هل اعتقد من ذهب إلى القذافي أنه يقدم تجربة ناجحة للحكم والتنمية والحريات؟ لقد كان مستبداً وجاهلاً. وأذكر أنه قدم «جائزة ثقافية» استنكف كل العقلاء عن قبولها وقبلها أحد «المثقفين» العرب فشكلت وصمة عار واستدرجت نقداً لن يبرأ منه! لأن أي عاقل كان يرى أنه أمام شخصية غير سوية. م
وقفي الشخصي من معمر القذافي قديم، كان يمثل الرجل الأقرب إلى رجل عصابات وقاتل، إلى درجة أني نشرت مقالاً في وسط الثمانينات في جريدة «الحياة» الدولية حول «الديمقراطية العربية بين الحربين» عرجت فيه على التجارب في العراق ومصر، وأيضاً ليبيا أيام المرحوم إدريس السنوسي، وقتها قلت إن عهد السنوسي قد قبل أن تخرج مظاهرات في طرابلس تهتف «إبليس ولا إدريس» ثم فتحت قوسين في المقال نفسه وقلت «وكأن الله استجاب لندائهم»؛ إذ بالتأكيد لم يكن القذافي شخصاً أو مشروعاً يستحق أن يقال له «مثلك من يعني له!».
ظني أن الكثير من الاستبداديين اليوم كما في تركيا وإيران يقومون أيضاً بالتسجيل لزوارهم وقاصديهم بطريقة لا أخلاقية، ولن ينجو من ذلك معظم إذا لم يكن كل لاجئي تركيا العرب، الذين من جديد يعتقدون أن النظام الإردوغاني سوف يقدم لهم المنّ والسلوى، والحقائق تعلن عن نفسها، فالأرقام المعلنة للمساجين السياسيين وأصحاب الرأي الأتراك أصبحت معروفة للعالم، أما عشرات الآلاف في سجون طهران فتلك حقيقة لا يساورها الشك، كما كان المناضلون الليبيون في المنافي أو السجون عند نظام الرجل «الذي مثله يعني له!»، هل ذلك التصرف الأخرق هو بسبب قصور في الفهم أم ضلال في السياسة، أن تلجأ إلى مكان طلباً للأفضل في ادعائك المعلن، وهو لا يقدم لشعبه إلا السجون والمنافي والبطالة والشعوذة، كما يفعل النظام الإيراني اليوم! أم هم طلاب للشهرة والرئاسة، أم فقدان واضح لبصيرة إنسانية بسيطة تقول إن فاقد الشيء لا يعطيه، أم هو عمى للمشروع الخيالي الذي يحملون؟ ربما كل ذلك.
الوضع محير، كيف يمكن لنا أن نفهم هذا التزلف لمجنون أو طاغية أو مستبد! هنا نأتي إلى صلب الموضوع البعيد عن الشخصانية، وهو أن المشروع المسمى بالإسلام السياسي أكان «إخوان» مصر أم الكويت أم أشكال من يسمي نفسه بـ«حزب الله» أو «أنصار الله»، كل هذه التيارات تسير في طريق سياسي ماضوي أساسه انقلابي واستحواذي، المعلن هو إعادة الخلافة، وهو مفهوم طوباوي مفرغ من محتواه في زمن مختلف وعصر آخر، ولكنه في الوقت نفسه يتغذى بشرياً على طائفة كبيرة من الناس تقوم عن وعي أو من دون وعي بتغييب عقولها لتقبل تلك الأفكار والطروحات، سهّل ذلك تعليم بعيد عن المنطق والفلسفة ومشبع بأفكار خرافية، أتاح لجماعات الإسلام الساسي بحراً من الأتباع الذين يسيرون وراءهم من دون بصيرة من خلال مؤسسات تعليمية وأخرى إعلامية رسمية أو شبه رسمية وثالثة اقتصادية، ذلك من جانب، ومن جانب آخر نفتقد إلى مشروع نهضوي وطني قائم على فكرة الدولة المدنية الوطنية العادلة. مشروع الإسلام السياسي بجانب كونه انقلابياً فهو عابر للدولة الوطنية بطبعه، شواهد كثيرة ويكفي أن نقرأ كتاب يوسف ندا وزير مالية «الإخوان» الدولي والمعنون «شاهد على العصر»، وكيف قام التنظيم الدولي مبكراً بتمويل حركة الملالي في إيران، وهناك عدد من الوثائق التي تؤكد أن التنظيم يؤيد أي حركة انقلابية في أي مكان إن أرادت له قيادته الدولية ذلك، ولكن بعضه في تناقض عجيب، فهو متمسك بالدولة القومية في مكان آخر، فالشعور الطوراني القومي هو الذي خلق ازدراء يعادي الأكراد المواطنين في تركيا رغم إسلامهم ومواطنتهم، والشعور الفارسي هو الذي خلق ولا يزال يخلق فكرة التفوق الفارسي على بقية سكان إيران، وأيضاً جيرانهم العرب حتى لو كان بعضهم ينتمي إلى المذهب الشيعي! طبعاً هناك ألوان مختلفة للمنضمين إلى هذه الحركات، من بينها التسطيح المعرفي، وإن أردنا أن نبحث أكثر وجود انتهازية سياسية تحاول شد العصب تارة تحت شعار فلسطين، وأخرى تحت شعار الديمقراطية، وكلاهما خداع لا أكثر.
أخر الكلام:
عندما يسجن التفكير في إطار يلغي الزمان والمكان تقاد المجتمعات إلى التخلف.
المصدر: الشرق الأوسط