محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت
العدو الرئيس لأي سلطة حاكمة في مصر هو الفقر، وليس نقصا في التدين أو نقصا في الديمقراطية هو مكمن الخطر، والسلطة التي لا تضع نصب عينيها محاربة الفقر، وتهتم بدلا من ذلك بآليات ظاهرية لما يعرف بالديمقراطية أو كثرة الصلوات، تغيب عنها القضية المركزية.
تخفيف حدة الفقر وتجفيف منابعه لا يبحث عنها في «آيديولوجيا» معينة أو في شعارات سرعان ما ينكشف للجميع أنها لا تشبع ولا تغني. تخفيف حدة الفقر لها مدخلات معروفة تبدو سهلة في الظاهر وعصية على المنال في الواقع. لعل الأركان الخمسة التي تساعد على تجفيف منابع الفقر، والتي تم اختبارها بنجاح في أماكن أخرى، هي على التوالي: تجويد التعليم، تخفيف حدة البيروقراطية، محاربة الفساد، جذب استثمارات خارجية، منظومة قانونية مستقلة وحديثة. هذه الشروط الخمسة متداخلة ويخدم بعضها البعض الآخر، وتحتاج إلى رؤية وإدارة لتحقيقها.
لقد تم تحقيق هذه الشروط في بلاد شرقية كثيرة أصبحت اليوم بلادا مستقرة وحديثة ومنتجة، ومصر فيها من القدرات ما يمكن التعويل على نجاح مثل تلك الخطط إن هيئ لها إدارة تنتشلها من هذه الوهدة التي أراها مؤقتة.
أهل الآيديولوجيا يبيعون الوهم للبسطاء، ينشرون بينهم الرأي القائل إن فقرهم في الدنيا قد يتحول إلى غنى في الآخرة، فيجعل الجماهير تتدفق إلى عالم الأوهام، وهو وهم استمرأته قوى «الإسلام السياسي» ومررته على جمهور يتوق للخلاص. قطاع من هذا الجمهور – لسبب أو لآخر – صدق المقولة في غياب مشروع آخر. الأزمة الحاكمة أن قوى الإسلام السياسي لا تستطيع أن تنفك من مقولات بيع الوهم، لأنها إن فعلت ذلك خسرت ذلك الجمهور الذي تعول عليه في الحشد والمناصرة، فهي حبيسة له وحبيس هو لها. إنها تواجه أزمة ليس اليوم، بل منذ زمن طويل، حالة هيكلية من الاشتباك السياسي الديني لا يمكنها الخروج منها، وهذا ما أوقع حكم الإخوان المسلمين في التعثر سريعا في بلاد مثل مصر، لا ينقص أهلها التدين بكثرة ما ينقص أهلها التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
الفريق عبد الفتاح السيسي لامس في خطابه الأخير الأسبوع الماضي، وهو ينقد الحكم السابق، كبد الحقيقة، حيث قال إن «مشكلات مصر ضخمة» لا يستطيع فريق منفرد أن يقوم بحلها، وكانت نصيحته للحكم السابق التي كررها أن أشركوا الآخرين كي يحملوا معكم السلة، ولم يستمع إليه أحد، حقيقة ما قاله السيسي: سوف تبقى مشكلات مصر ثقيلة، تحتاج إلى توافق اجتماعي، وإلى زمن وإلى استقرار، وقبل ذلك إلى حكم رشيد!
واحدة من القضايا التي وجب أن تحسم في مصر، وقد يتوق إليها آخرون في أماكن أخرى من عالمنا العربي والإسلامي، هي ما يمكن أن أسميه «نهاية السيندروم الإيراني»، وأعني به الخلط غير الصحي بين السياسة والدين، الذي جاء به المشروع الإيراني إلى المنطقة، وإن كان هاجس بعض من القوى السياسية النشيطة قبل ذلك، الصيغ التي اتبعت فشلت، حيث قامت بإزاحة زمانية مكانية افتقدت الحد الأدنى من الاجتهاد المعرفي.
فشل هذا المشروع في مصر قد يودي إلى صحوة سياسية في عموم المنطقة. لقد كان الفشل مركبا في مصر، كان هناك «مرشد» أو «مكتب إرشاد» مطلق الصلاحية وصاحب نفوذ، وهناك رئيس جمهورية منتخب ولكن محدود القدرة على التصرف، ويقع في التسلسل الهرمي السادس أو السابع! خلق ذلك ازدواجية عميقة سرعان ما التقطها الشعب المصري بإحساسه أن القرارات تتضارب وأن الدفة يتنازعها أكثر من شخص، فكان ما عرف لاحقا بحركة 30 يونيو (حزيران) التي أوقفت المشروع المتعثر، حتى لا يزداد تعثرا، وما كان له أن يوقف لولا ما حمله من ضعف في داخله.
فك الاشتباك بين الدين والسياسة عملية تاريخية مهمة في صيرورة التقدم العربي، وربما الشرق أوسطي، إن استطاعت مصر، دون مواربة ودون تردد، أن تؤكد ذلك في مشروع الدستور الجديد فهي قد خطت في سبيل المستقبل خطوة واسعة، مع إتاحة الفرصة للجميع في دولة مدنية أن ينظموا أنفسهم سياسيا، سواء كان هذا التنظيم له خلفية تراثية أو حداثية، لينطلق الجميع في أجواء تنافسية متعادلة.
الجدل العقيم الذي يخوضه البعض في الحالة المصرية بعضه هزلي إلى حد الضحك، فقد استمعت إلى أحدهم يقول إن «اعتصام رابعة العدوية كان به أربعون مليونا»! ما دام الأمر كذلك فلِمَ الخوف أو التردد السابق عندما طالب الشعب بانتخابات مبكرة، أو اللاحق وهو الذهاب إلى صناديق الاقتراع، التي وعدت بها خارطة الطريق؟! بعض المقولات لا يصدقها العقل السليم في هذا الجدل. جدل آخر قادم من الغرب بالتلميح بالتهديد لتأخير أو وقف معونات لمصر! أرى أن هذا التهديد للاستهلاك المحلي! وربما لن يتم في الواقع العلمي لأسباب كثيرة، وحتى على أسوأ الاحتمالات لو تم فقد يكون فرصة جديدة لمصر، تستدعى شعار مهاتير محمد في ماليزيا أول سني حكمه، حيث رفع شعارا مثلثا هو «حكومة نظيفة، انظر شرقا، تجويد التعليم». النخبة المصرية الحديثة تستطيع أن تقوم بذلك، وسوف يتبين أن الخسارة هي لمن قاطع في نهاية المطاف وليس على من قوطع!
لعل الأهم في هذه المناقشة أن يؤكد على أن «الإخوان» شيء و«الإسلام» شيء آخر، تفكيك الثنائية التي يلعب عليها الإعلام الإخواني ومناصروه لتمريرها على السذج والبسطاء لها أولوية، حيث إن خسارة الإخوان في السياسة هي ليست خسارة للإسلام، لا من قريب ولا من بعيد، بل على العكس هي تأكيد لعلو كعب المبادئ الإسلامية التي ترفض التطرف كما ترفض الاستحواذ. ليس الإخوان الجماعة الأولى ولن تكون الأخيرة في تاريخ المسلمين التي تلبست لبوس الدين في سبيل تحقيق مشروع سياسي، عشرات الجماعات تلبست ذاك اللبوس وانتهت إلى الخواء.
كلما زاد تزمت الإخوان المسلمين في رفض الانخراط في العمل السياسي المتاح، أبعدوا أنفسهم عن التيار العام السياسي المصري، وولجأوا، هم أو أنصارهم، إلى العنف الذي يبدأ باللفظي وينتهي بالدموي.
لست قلقا على مصر، كما لا يطوف بخاطر أحد أن يفكر بأن الإسلام في شبه خطر في بلادٍ الممارسة الإسلامية فيها متجذرة ومتمكنة، ما أحذر منه الغلو في الخصومة والتعنت في الرأي أو أخذ البريء بجريرة المخطئ.
آخر الكلام:
الممثل المبدع عبد العزيز مخيون في مسلسل «بدون ذكر أسماء» الذي عرض في رمضان الماضي يقول تعليقا على ما يشاهد في التلفزيون من احتفال: «إن انتصرنا خايبين، وإن خسرنا خايبين»!! يا له من معنى مبطن!
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط