محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت
الخليج يتجه شرقا؛ زيارة ولي العهد السعودي الأمير سلمان بن عبد العزيز إلى كل من باكستان والهند واليابان، وزيارة ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد إلى اليابان، تعني الزيارتان ضمن ما تعنيان، أن الخليج يتجه إلى الشرق، وقد سبقت تلك الزيارتين واحدة مرتقبة للرئيس باراك أوباما إلى المنطقة أواخر هذا الشهر. الرسالة هي أن هناك خيارات خليجية يمكن النظر فيها، إن قررت الولايات المتحدة أن تغلق الباب على المحادثات بينها وبين الدول الأوروبية من جهة، وبين إيران من جهة أخرى، دون معرفة أو اطلاع دول الخليج، وخصوصا أن الموعد المضروب لاتفاق نهائي إيراني غربي هو يوليو (تموز) المقبل، وهو يعني أن ملفات لها علاقة بالمنطقة الخليجية والعربية سوف تبحث في هذه المرحلة التي قد تقود إلى وفاق إيراني – غربي.
القلق الخليجي من إيران ليس كما يرغب الإعلام المعادي للخليج أن يُظهره، وكأنه قلق مذهبي، هو غير ذلك تماما، إنه قلق سياسي بامتياز، فإيران منذ أن بدأت مسيرتها الثورية لأكثر من ثلاثة عقود اعتمدت على ركائز ثلاث؛ الأولى معاداة الغرب وإسرائيل، الثانية معاداة الأنظمة الوراثية، والثالث تقديم بديل للشعوب العربية يختصر في شعار تخليص «المستضعفين» من «المستكبرين»، حسب مفردات الدستور الإيراني! البعض يسمي هذه الركائز الثلاث «المشروع الإيراني الإقليمي»، واتسم تطبيق هذا المشروع بمرونة كبيرة، وأيضا بانتقائية مبطنة. على سبيل المثال، أثناء التدخل الأميركي ضد نظام صدام حسين في العراق، أو أيضا ضد نظام طالبان في أفغانستان، لم يثر هذا التدخل حفيظة طهران، بل تغاضت الأخيرة عن كل «الأرمادا» العسكرية القادمة من الغرب، لأن النتيجة – رغم أنها حققت التخلص من نظامين شرسين – فإنها صبت لصالح المشروع الإيراني.
المدخل الآخر هو معاداة إسرائيل، والذي جلب لها قوة إضافية سياسية لدى الجمهور العربي، فهي لم تساعد الجناح الشيعي (المقاوم) في المنطقة فحسب، بل ساعدت حماس والجهاد السنيتين، وأيضا النظام السوري الذي كان يتغطى أمام جمهور واسع بالممانعة!
الربيع العربي في أوله كان أيضا إضافة إلى المشروع الإيراني، فقد استقبلت طهران وفودا من كل من تونس والقاهرة، على أن ما وقع هو امتداد لثورة «المستضعفين»، سرعان ما بدأت الأمور تأخذ منحى آخر، خاصة باشتعال الثورة لدى الحليف السوري. هذا المنحى معطوف على تحولات سريعة منها استعادة الوعي الشعبي في كل من تونس ومصر، وتدخل سافر لحزب الله المدعوم من إيران، بل ومن الحرس الثوري في حرب الإبادة ضد السوريين، والقضاء على فلسطينيي مخيم اليرموك الذين حوصروا حتى الموت جوعا، وتزامن ذلك مع دخول طهران في طريق قد يقود إلى وفاق مع «الشيطان الأكبر»، كل ذلك سحب من طهران أوراق قوة استخدمتها سياسيا وإعلاميا لفترة طويلة من أجل تجنيد مناصرين لها في الجيب العربي، هنا بدأ منعطف تآكل وانكشاف المشروع أمام جمهور واسع، فلم تعد القضية المساعدة على تحرير فلسطين، بل تحولت إلى قتل الفلسطينيين، ولم تعد محاربة «الشيطان الأكبر»، ولا حتى الصغير (إسرائيل)، بل الحوار معهم، ولم تعد المقاومة ضد إسرائيل، بل ضد شعوب تتوق إلى الحرية، وعصفت الأحداث بأوراق التوت الإيرانية تقريبا كلها أمام أهل العقل والمنطق من العرب، لم يبقَ في جانب التأييد للمشروع الإيراني بعد انكشاف التمويه إلا مودود أو تابع، يعاني من قصر فادح في قراءة الأحداث قراءة واقعية، وهكذا انحسر كل الغطاء عن المشروع الإيراني، وسقطت الذرائع لتظهر دوافع الاستئثار المرغوب والتوسع المطلوب، واضحة جلية.
في فترة قصيرة، هي سمة الزمن الذي نعيشه، تغيرت موازين كثيرة، كما انتهت صلاحية أوراق سياسية كثيرة، لم تعد طهران تستطيع أن تحشد الكثيرين تأييدا لمشروعها، وهي تؤيد في نفس الوقت القتل المبرمج في سوريا لمواطنين أبرياء، كما لم يعد أحد في عقله ذرة من التفكير السليم يقبل إدانة وجود كتيبة من «درع الجزيرة» في البحرين لم تطلق طلقة واحدة، بل أصبحت هدفا للإرهاب العنيف، مع اشتباك يومي بالنيران بين خبراء إيران العسكريين وذراعها العسكرية المحلية حزب الله، الذي يقتل ويشرد في سوريا إلى حد الإبادة.
بقي ملف أخير يثير بعض الأوساط الغربية، وهو ملف «الإرهاب والتكفيريين»، وهو بسرعة يمكن رده من خلال منطقين؛ الأول أنه موجود بصفته كرد فعل على ما يحدث من عنف، والثاني وهو الأهم أن «الإرهاب» قد وجد له ملاذا مطمئنا لفترة في طهران، والحقائق التي خرجت من نيويورك في الإعداد لمحاكمة سليمان أبو غيث، ومكوثه المريب مع جماعات أخرى في إيران لزمن، تعطي الدليل على استخدام الدولة لتلك العناصر، في الوقت الذي تحارب فيه الدولة العربية علنا أي توجه للإرهاب أو التكفير وتطارده.
لا بد هنا من التوقف خليجيا على الأقل لقراءة من جديد لتقرير «تقصي الحقائق» في كارثة احتلال العراق للكويت، وهو التقرير الرسمي الذي كتبته لجنة من مجلس الأمة الأول بعد التحرير، قيل في الخلاصة ما يلفت النظر «إن عدم قراءة دقيقة في مقدمات الأحداث، قادت في جزء منها إلى الكارثة»، فالقراءة الدقيقة للأحداث تجنب الشعوب الكثير من المهالك.
في العودة إلى ملف العلاقات الخليجية – الإيرانية، من السذاجة القول إن إيران قد غيرت جلدها، أو على الأقل من المبكر القول بذلك. فالمشروع الإيراني – رغم سقوط كثير من أوراقة – ما زال فاعلا في أوساط عربية معينة، لسبب أو لآخر بعضه عدم الانفكاك من الشعارات، رغم كل ما يناقضها من أفعال على الأرض، وآخر مصلحي مباشر.
هناك ثلاث ملفات واجبة النظر خليجيا في هذه المرحلة؛ الأول يندرج تحت ما يمكن أن يسمى «ضمور الحريات في إيران»، حيث إن «النموذج الإيراني» بعد أكثر من ثلاثة عقود، لم يقدم المن والسلوى للشعوب الإيرانية، فنسب الإعدامات على خلفيات سياسية تثير قلق المنظمات الدولية، ونسبة تعاطي المخدرات في قطاعات واسعة تنم عن خلل اجتماعي اقتصادي عميق، ونسبة الفقر تتصاعد، كما انتشار الفساد بين النخبة، مضافا إلى كل ذلك تكميم الأفواه، وخصوصا المستنيرين وطالبي الحرية، حتى إن كثيرا من وسائل الاتصال الاجتماعي المتاحة للعالم ممنوعة، ما تنقص هذا الملف هو الإضاءة على عناوينه، التي هي قاصرة قصورا مروعا من الجانب العربي، ولا تصل حقائقها إلى الناس. الملف الثاني هو التفكير في إصلاحات مناسبة في الضفة الغربية من الخليج، أولا لتحقيق مطالب أصبحت من المتفق عليها عالميا، وثانيا لقلع ذرائع في أذهان من يرغب في أن يصدق أن «الضفة الأخرى أكثر أمنا وتسامحا»! أما الملف الثالث والأخير فهو توحيد الصف الخليجي بالاتجاه إلى بناء منظومة أكثر تماسكا مما هي عليه اليوم، وذلك يحتاج إلى رؤية وعزيمة معا، حتى لا تقع في مغبة «عدم قراءة دقيقة للمقدمات»، وهي مقدمات تتكاثر كغيوم الشتاء، من ضمنها أن المشروع الإيراني الإقليمي قائم وله تجلياته، كما أن التراجع السياسي الأميركي يمكن أن يقرر عقد صفقة من فوق رؤوس الخليجيين جميعا، عدا الاضطراب الضخم في الجوار العربي.
آخر الكلام:
الأدوات القديمة لا تصلح لمعالجة مشكلات جديدة!
المصدر: الشرق الأوسط