محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت
المراقب لديناميكيات التغيير العربي في أول موقعين له، تونس ومصر، قد يفاجأ بما في سيرورتهما من تماثل يصل إلى حد التطابق. قلت التغيير العربي، ولم أقل ثورة أو حتى ربيع، فالمفاهيم هنا لها أهميتها، لأن التغيير يمكن أن يكون إلى الأفضل، ويمكن أن يكون إلى الأسوأ. الطبيب يقول لمريضه: «لقد لاحظت تغييرا في حالتك الصحية في المدة الأخيرة، ألم تأخذ الدواء؟!».. والإشارة واضحة أن حالة المريض الصحية تسير إلى الأسوأ.
لا أريد أن أناقش ما تناولته الأقلام كثيرا وعميقا من المنغصات السياسية والاقتصادية في حالة مصر وتونس السابقة، فلم يعد مجديا هذا السياق، لكن المؤكد أن من خرج إلى شوارع مصر وتونس، قبل عامين، كان يرغب في أن يتحول الأمر إلى الأفضل، سواء في الأداء السياسي أو الأداء الاقتصادي، وقد يسارع البعض ليقول إن الوقت لا يزال مبكرا للحكم على اختلاف الأداء، وهذا قول صحيح، لكن القول الصحيح أيضا أن القطار عندما يغادر المحطة يأخذ وجهته، ويعرف راكبه أنه متجه إليها، حتى قبل أن يصل، وراكبو قطار التغيير في تونس ومصر يستطيعون من الآن أن يعرفوا إلى أي محطة هو ذاهب، أما المراقب فهو يحذر مبكرا من التوجه الخاطئ لمسيرة القطار.
التماثل الكلي في الجوامع يبدو واضحا في أربع قضايا كبرى:
الأولى.. كان الأمل أن يكتب دستور «توافقي» في المحطتين التونسية والمصرية، وما حدث أنه لا مصر كتبت هذا الدستور التوافقي، ولا تونس تتجه إلى ذلك الطريق. الدستور المصري شابته عيوب مفصلية، وقد كتب حولها العديد من أهل الفقه الدستوري، بل إن أول محاولة لإصدار قانون معتمد على نصوص الدستور الجديد، هو قانون الانتخاب في مصر، نتاجها جاء مخالفا حتى للدستور الذي به عوار. وقد أرجعت المحكمة الدستورية المصرية، التي «نُظفت» من «المُشاغبين» ذلك القانون!.. يعني ذلك أن الاستخفاف بمنطق وضع الدساتير وعدم احترام نصوصه هو السائد.
أما الدستور التونسي الذي هو قيد المناقشة، فقد بدأ العديد من أهل الرأي المستقل في تونس يرون العوار القادم فيه. لقد انتهت أولا مهلة كتابة الدستور التي وضعها من فاز بالانتخابات في تونس («الترويكا» كما تسمى)، حيث مرت المهلة في 23 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ولا يزال الدستور التونسي قيد البحث، كما أن مسودته تجمع بين أحكام متناقضة، كما هو الدستور المصري، أي أن الدساتير في ما بعد التغيير تُفصل حسب أهواء المنتصرين الجدد، وهم من يستهويهم خلط الديني بالسياسي، إلى درجة تغييب المنطق.
أما القضية الكبرى الثانية أو التماثل الثاني الذي جاءت به القوى التي وصلت الحكم، فيمكن تسميته بـ«الانتقام والتنكيل بالمخالفين»، هذه المرة على خلفية أن تلك الأسماء والجماعات كانت مساندة للنظام القديم. في مصر تحدث الدستور عن «عزل» شبه منظم للنشطاء السياسيين السابقين، لكن النظام الجديد لم يقف عند ذلك الحد الذي يمكن توصيفه بأنه مؤسسي، بل تجاوز ذلك إلى ما هو شخصي، بملاحقة كل الشخصيات «المعارضة، أو التي يمكن أن تعارض». المثال وليس الكل في مصر مثلا هو أحمد شفيق وبناته، فهو الآن في موقع الخسف الشخصي على خلفية التربح من الفساد السابق، إلى درجة أن إحدى تهم الابنتين أنهما استوليا على ممر يقع بين فيللتيهما!.. ثم سارت الأمور إلى رجال القضاء، فجاء الاتهام إلى أحمد الزند، رئيس مجلس إدارة نادي قضاة مصر، ونجله أيضا، إكمالا للشفافية، حيث كان الزند من أكثر الأصوات احتجاجا على تهميش القضاء في الأشهر الأخيرة، ثم أتبع أيضا باتهام إلى المستشار عبد الحميد محمود النائب العام المصري السابق، الذي أقيل من منصبه، بعد أن أغري في فترة سابقة بمنصب سفير مصر لدى الفاتيكان، بل صدر امتعاض من بعض الأطراف عندما أعلن ترشيح الأخير خبيرا دستوريا في مجلس الأمة الكويتي.
وعلى صعيد تونس تجري الأمور كسابقاتها: عزل سياسي يطال المخالفين السياسيين يُشكل الحظر على قياس الغالبية الحاكمة الجديدة، فاقتراح العزل التونسي يطال كل أعضاء مجلس النواب السابقين في عهد بن علي، حتى يصل إلى الباجي قائد السبسي، الزعيم الذي له إمكانية المنافسة بمعية حزبه «نداء تونس» لـ«الترويكا» الجديدة الحاكمة خاصة «النهضة»، وقد صرف النظر عن عزل أعضاء مجلس المستشارين (الشيوخ) في عهد بن علي، لأن بعضهم أصبح حليفا للقوة الجديدة، النهضة.
في كلا المكانين هناك ظاهرة عامة بتراجع الشعور بالعدل أو العدالة الانتقالية التي أصبحت عدالة انتقائية، وتصفية الخصوم الحقيقيين أو المحتملين من الساحة، قبل خوض الانتخابات القادمة، إن تمت!.. من أجل الاستفراد بنتائجها.
أما القضية الكبرى الثالثة فهي عزل والاختلاف مع الحلفاء الأقرب.. ولا يحتاج الكاتب إلى دليل على الخلاف السلفي الإخواني المصري، الذي أبكى علنا رجلا سلفيا مثل خالد علم الدين، كان إلى وقت متأخر «مستشار الرئيس».. ومثل ذلك يحدث في تونس فالشريكان النهضة والمؤتمر لا يريان بعين واحدة، ولا بنفس الاتجاه، ما يحدث في تونس، بل الخلاف دب علنا في رأس تجمع النهضة، بين الأمين العام و«المرشد» غير المنتخب من الشعب، وبين الأخير ونائبه.
القضية الرابعة الكبرى هي تحريك المحازبين في الشارع، فقد بدا أن هناك تكتيكات متشابهة، تذكر المراقب بتكتيكات الأحزاب الشمولية في أوروبا، بل تزيد عليها من حشد المناصرين في الشوارع، كما حدث في تونس ومصر أكثر من مرة، ومن تجنيد الميليشيات المناصرة، إلى استخدام أعضاء في الحزب «الحاكم» لرفع قضايا ضد المخالفين السياسيين على خلفية شبهات، وتدور القضية في المحكمة، وتجري التحقيقات، والمشتكى في حقه المعارض يدور كجاموسة الساقية، والمشتكي يتناول الشاي في المقهى!
لقد تحولت السلطة في بلاد التغيير إلى أيدي أحزاب مغرمة بالتشبث بها، وأصبح قطاع كبير من المجتمع غير معني أو مقتنع بأن الغد يحمل له أخبارا أفضل، كما أن الوضع السياسي يؤذن بالاحتقان، ويفتح الباب أمام احتمالات مرعبة، والخاسر الأكبر هو الشباب المحروم من العمل والحرية، ولا يزال محروما منها!.. إنها عملية تقدم سريع إلى الخلف!
آخر الكلام:
«منذ وقت مبكر حاولت الدعوة الإسلامية الإحياء الروحي للإسلام لكنها لم تسع بالدرجة نفسها للإحياء الفكري.. لذا كانت اندفاعاتنا هوجاء.. والابتلاءات الجديدة تفرض علينا تجديد فكرنا الديني لنواكب الأحوال.. ولكن ذلك لم يحدث»! حسن الترابي لـ«الأهرام».. وأقول: أسمع كلامك يُعجبني..!
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط