لاحظت أن دعاة الإصلاح في الفكر الإسلامي المعاصر، أعرضوا بغالبيتهم عن الحديث المنسوب للرسول (صلى الله عليه وسلم): «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها». بخلاف رواد المنهج التقليدي الذين احتفوا به، مع أن غالبيتهم تتخذ، من حيث المبدأ على الأقل، موقفاً متشككاً إزاء دعوات التجديد المعاصرة.
والحق أن معالجة التقليديين لفكرة التجديد، بعيدة جداً عن جوهرها. فقد صرفوا النقاش، من التجديد كقضية قائمة بذاتها، إلى هوامشها البعيدة، مثل تحديد من يصدق عليه وصف المجدد. كما اهتموا بنوعية علمه، فاستبعدوا حملة العلوم كلها عدا الفقه والحديث. واهتم بعضهم بتوضيح أن انطباق وصف المجدد على شخص بعينه، مشروط بأن يتوفاه الله عند نهاية قرن وبداية قرن جديد. فلو توفي في منتصف القرن – مثلاً – خرج من قائمة المجددين.
ومن المتوقع بطبيعة الحال أن يصرف كل أهل مذهب وصف المجدد، إلى علماء مذهبهم دون سواه، كما فعل جلال الدين السيوطي في أرجوزته الشهيرة «تحفة المهتدين بأخبار المجددين». وهو الأمر الذي عارضه الحافظ ابن كثير والمناوي في «فيض القدير».
كما تضمنت نقاشات قدامى الإسلاميين خلافاً حول صحة أن يكون لكل قرن مجدد واحد أو أكثر من واحد. ونعلم أن هذه النقاشات جميعها بعيدة كل البعد عن جوهر الفكرة التي يعالجها الحديث، أعني بها فكرة أن التجديد مبدأ لازم، حتى لو تعلق الأمر بنظام فكري أو آيديولوجي ينطوي على مضمون مقدس مثل دين الله.
والذي أرى أنه يستحيل التوصل إلى فهم دقيق لمبدأ التجديد، في إطار المنهج التقليدي، فضلاً عن القيام بهذه المهمة. أما سبب هذا الزعم الجازم فيرجع إلى جوهر هذا المنهج، وأخص بالذكر صفتين أساسيتين فيه؛ أولاهما انصراف مفهوم العلم إلى التراكم الأفقي، بدل التطور والتحول. أما الثانية فهي الملازمة المتكلفة بين الفكرة وشخص قائلها، الأمر الذي يجعل نقد الأفكار موازياً عندهم للتشنيع على الأشخاص، وما يمثلون من قيمة تاريخية. وأحتمل أن هذا تعبير عن ميل قوي لتثبيت المنظور المذهبي للقضايا العلمية، أو ربما تحويل المذهب إلى بنية آيديولوجية قائمة بذاتها.
أفترض أن الصفة الثانية واضحة بما يغني عن مزيد البيان. لكن في خصوص الصفة الأولى، فإن الفرضية الأساسية في تطور العلم، هي أن الجديد يعتمد على سابقه أو يستفيد منه، يعارضه أو يزيد عليه، ثم يتجاوزه. أي أن اللاحق يقدم تفسيراً أقرب للحقيقة من السابق، ولهذا يحتل مكانه.
لكن المشهود عندنا أن المنهج التقليدي في علم الدين، يسير باتجاه معاكس تماماً. فاللاحق يكتسب قيمته من موافقته للسابق، وليس تجاوزه، فضلاً عن نقده ومعارضته. بل إن معارضة التفسيرات والرؤى الموروثة، تعامل عند رواد هذا المنهج كدليل على الجهل، أو حتى سوء النية في بعض الأحيان. وهذا ما وصم به كثير من المفكرين الذين طرحوا تفسيرات وتصورات جديدة خلال الخمسين عاماً الماضية. سوف أعود للمسألة في مقبل الأيام. لكن زبدة ما ينبغي بيانه هنا، هو أن جوهر التجديد كمبدأ علمي وعملي، هو نقل المعيارية والمرجعية من القديم إلى الجديد. فإذا بقي القديم ثابتاً في مكانه، وإذا طولب الجديد بأن يتبع خطى القديم، فإن الأمل في التجديد ليس سوى سراب.
المصدر: الشرق الأوسط