محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت
إلى أي ميناء تأخذ الكويت حراكها السياسي؟! ففي فبراير (شباط) من كل عام، يتذكر الكويتيون بألم وحسرة أحداث احتلال قاسٍ ومؤلم أنتج شتات الأهل، وعمّق الأحزان.
ويعود فبراير هذا العام مختلفا في الشكل، ولكنه في المضمون جاء مشابها لإعادة الأحزان، البعض يرى أن ما يحدث في الكويت هو هز السفينة أكثر من اللازم، على الرغم من أنها في بحر لجي.
ظاهر من الأحداث أن عددا من القضايا المرفوعة على سياسيين نشطاء ينظر إلى أعمالهم القانون المرعي على أنها خارجة عن نصوص القانون الذي وافق عليه الكويتيون، ومن ذلك المنطلق صدرت أحكام بالسجن للبعض، وينتظر البعض الآخر حكم المحاكم بهذا الصدد. كما ينتظر الكويتيون أيضا حكما من نوع آخر، هو الحكم المتوقع من المحكمة الدستورية حول الخلاف الدستوري الناشب بين الحكومة وبعض النشطاء السياسيين. يمكننا تلخيص الموقف إذن في الكويت اليوم بكلمة واحدة هي «الترقب المشوب بالحذر»، حيث أصبح المجتمع عرضة للانجراح.
أريد أن ألمس الموضوع الشائك من منطلقين؛ الأول هو رأي الناس العاديين من الكويتيين والكويتيات، أمام هذا التنافر الاجتماعي السياسي الحاصل، فالكثير منهم يضعون أيديهم على قلوبهم من هذا الشقاق الذي انتاب المجتمع، هم يقفون عاجزين عن فهم دوافعه أو قبول نتائجه، أو حتى التأثير في مجرياته، هم يصلّون ويدعون أن تنقشع هذا الغمة عن الكويت على خير، في خلفياتهم وذاكرتهم ما حدث لبلدهم قبل أكثر قليلا من 20 عاما، عندما عادت الكويت إلى أهلها بشبه المعجزة، ربما لا تتكرر، هذا الشعور الذي يتخوف منه الأسوياء، هاجس الكويتي العادي. هناك آخرون يرون أن نشاطهم ضد ما تقرر من واقع جديد في التصويت على قاعدة الصوت الواحد للشخص الواحد هو نشاط مبرر يستحق أن يذهب البعض بسببه إلى السجن، كما يستحق كل المسيرات والتجمعات.
القيم العميقة للمجتمع الكويتي التي اعتادت ديناميات التوافق، تسعى إلى الوصول إلى حل وسط على قاعدة «لا يموت الذئب ولا تفنى الغنم»، لذلك وجدنا أن عددا من الجماعات أخذ على عاتقه محاولة التوسط بين الفريقين المتباعدين كل ساعة عن بعضهما، للوصول إلى رأس جسر توافقي. أكثر المتفائلين غير متيقنين أن ذلك يمكن أن يتم في وقت عاجل.
حقيقة الأمر أن التوقع السياسي في الكويت منفتح على كثير من الاحتمالات، ولعل أبرز تلك الاحتمالات ما سوف تتمخض عنه المحكمة الدستورية من رأي، والاحتمال الآخر هو طريقة وسلوك المجلس الحالي القائم، الذي جاء من خلال التصويت في الانتخابات الأخيرة بصوت واحد. فعلى هذا السلوك وقيمة الإنتاج السياسي الذي يلمسه الجمهور، يمكن أن يخفف ترمومتر التوتر أن توجه الإنجاز، ويكسب مؤيدين جددا يستحسنون نتائج عمل المجلس، أو يزيد حرارة التوتر، إن كرر في المضمون ما اشتكى منه الشعب الكويتي في السابق، ويكسب معارضين جددا يستاءون من تقاعس المجلس عن تحقيق طموحات الناس. تلك المراهنة ذات الشقين هي ما سوف يقرر إلى حد كبير إلى أين سوف تضع السفينة الكويتية «مرساتها».
البعض يرى أنه ليس مهما ما تكتبه عناوين الصحف اليوم، المهم ما سوف يكتبه التاريخ غدا، ولن تفتقد في الكويت من يثمن الإصلاحات العميقة التي تمت في عهد الأمير الحالي الشيخ صباح الأحمد. ويشير هؤلاء إلى عدد من السياسات الشجاعة التي اتخذها الأمير منذ أن تولى قبل 6 سنوات قيادة البلد متجها إلى الإدماج الوطني وتقليل التنافر الاجتماعي. أول الخطوات فصل ولاية العهد عن رئاسة مجلس الوزراء، الأمر الذي جعل رئيس مجلس الوزراء في مرمى المساءلة من قبل المجلس المنتخب، في الوقت الذي كان لـ40 عاما بعيدا عن المساءلة، كون رئيس الوزراء قد ارتبط بولاية العهد، مما يحصن أعماله، وهذه خطوة متقدمة في العمل السياسي الكويتي. وثاني الخطوات أن الأمير قد أخذ على نفسه (تكرارا) أن الدستور الكويتي الحالي سوف يكون دائما مهابا في رعايته، وأمام الحديث المتشكك الذي يُطلق بين فترة وأخرى؛ أن محاولات قد تجري للعبث بالدستور، فقد قطع الأمير على نفسه (علنا) ألا يتم ذلك. أما ثالث الخطوات الإصلاحية التي لا يراها البعض (حتى الآن) أن أمير الكويت قد تعهد أن يكون القانون هو الفيصل، على الكبير قبل الصغير، وفي مجتمع مثل المجتمع الكويتي، هو مجتمع في طور التحديث، ما زالت روافده لها منابع بدوية وتقليدية، إعلاء قيمة القانون لها شأن كبير، على الرغم من الشكوى أن هناك قوانين على الورق غير مفعلة، وقوانين لا تتناسب مع طموحات الدولة الحديثة، وقوانين يساء تطبيقها على أرض الواقع. أما أهم إعلان للإصلاح، فهو تعهُّد الأمير وعلنا أمام الكل أنه سوف يحترم ما تقرره المحكمة الدستورية في المختلف عليه حتى الآن (الصوت الواحد أو الأصوات الأربعة)، فإن قررت المحكمة الدستورية قرارا، سوف يكون الأمير، وبالتالي الدولة، مطبقة لذلك القرار.
على ظاهر الأمر، فإن بقاء التوتر في المجتمع الذي كان سائدا في ربع القرن الماضي على الأقل، الذي أفرز (ضمن ما أفرز) استهتارا بالقانون أو التطبيق الانتقائي له، كما أفرز تصاعدا في استخدام أعمال وألفاظ ضج منها المجتمع، وسببت قلقا اجتماعيا واسعا، كونها تسير ضد القيم العميقة للشعب الكويتي، إلى درجة التشابك بالأيدي في قاعة المجلس النيابي المنتخب، مع ترهل في أداء الدولة في معظم المجالات، وتغيير متسارع في الإدارة الحكومية جراء الضغط النيابي، بعضه على حق وكثير منه على باطل، هو الذي جعل الكويتيين في مجالسهم يئنّون بالشكوى المرة، في فقدهم للهوية الجامعة التي تعودوا عليها.
قد تكون إصلاحات أمير الكويت ليس لها نتائج مباشرة وآنية، ولكن البعض يعتقد أن تلك الإصلاحات إن استمر الأخذ بها يمكن أن تنقل الكويت إلى مكان أفضل، تدمج فيه الهوية الوطنية ويحل فيه القانون المطبق على الجميع محل الأمراض البيروقراطية المتراكمة، كما يمكن أن تصلح الإدارة الحكومية التي ترهلت بسبب التدخل في أعمالها، إلى درجة بدا أن الإصلاح فيها غير ممكن، كما يقلل من احتمال الشمولية الروحية المعادية للمجتمع المدني التي طالت بعض البلدان العربية. ما ينقص تلك الإصلاحات هو جهد الإقناع، كما ينقصها شيء من الشجاعة الأدبية التي تضع حدا للتجاوزات غير السياسية، عنفية التعبير، التي يتقاعس البعض عن إدانتها علنا.
آخر الكلام:
في إحدى جلسات ملتقى التنمية الخليجي السنوي الذي أقيم الأسبوع الماضي في الكويت، ذكر أحد الباحثين في الشأن السكاني أن الخلل في التركيبة السكانية الذي يتشارك فيه جميع دول المجلس لن يرى انفراجا في السنوات المقبلة ما لم تُطبق سياسات وخطط سكانية صحيحة، بل إنه من المتوقع أنه بحلول عام 2025 وما بعده قد تصل نسبة المواطنين إلى العمالة الوافدة في عدد من دول الخليج إلى النسبة الصفرية!
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط