خاص لـ هات بوست:
إن البنية الذهنية التاريخية لا تتحطم بقرار.بل إن أقلية محدودة فقط تتحرر من ذهنية المجتمع التاريخية، أما الأكثرية فيحتاج تحررها إلى زمن تاريخي طويل.
إن أكبر دليل على صحة ما نقول سرعة هزيمة الأيديولوجيات القومية والإشتراكية والعلمانية في أول شرارة من شرارات الصراع على السلطة، وعودة الذهنية الدينية -الطائفية.
فالإصطفاف الطائفي في بلاد الشام والعراق واليمن أعاد الكل إلى حظيرة القطيع وفي حالة لم تشهدها الحرب الطائفية في لبنان بين الدروز والموارنة عام 1860.
قلت له : لقد حطمت المليشيات العراق وحرمته من التطور المطلوب.
أجابني وهو الباحث في تاريخ الحضارات :لا تغلط يا دكتور، المليشيات هي التي حمت العراق!
صحيح بأن تأسيس الأوطان بسلطها في بلاد الشام والعراق كانت عملية أوربية اصطناعية وهذا الذي مازال حائلاً دون انتصار النزعة الوطنية والشعور بالانتماء الوطني لكن السُلط بكل أشكالها الحاكمة من سلطة الطاغية إلى سلطة القائد الديني وقائد الطائفة وقائد القبيلة ظلت حاضرة في وعي المنتمين إلى الهويات السابقة الذكر.
لا تبدو هذه الهويات ظاهرة في السلوك النافي للآخر في حالة السلم الأهلي، ولكنها ما أن يشتعل الصراع بكل أشكاله حتى تظهر الهويات بوصفها عصبيات قاتلة.
ولعمري بأن خطر العصبيات -بالمعنى الخلدوني-على مستقبل بلادنا كبير جداً فكل سلطة عسكرتارية -ميليشاوية ذات بنية طائفية تعني هزيمة السياسة والمدنية وتحطيم قيم التعايش بلا عنف. بل وتحطيم قيم الإنتماء الوطني، وعندي بأن الأيديولوجيات الدنيوية التي تحطمت كان سبب تحطمها هو الوعي الديني بها، فالأيديولوجيا نفسها صارت ديناً. وصار سهلاً الإنتقال منها إلى الدين الأصليّ وإلى الطائفة الأصليّة.
كان سهلاً على الشيوعي والبعثي والسوري القومي والليبرالي أن يدوسوا على لينين وسليم خياطة وفهد وكريم مروة وعفلق والأرسوزي وشبلي العيسمي وسعادة وعبد الرحمن الشهبندر ويمشون وراء اللحى الدينية-الطائفية والقلة القليلة من الجيل القديم التي مازالت تحتفظ بطوبياتها الواعدة تعيش اغترابها بصمت.
كما إن تحطيم الذهنية المدنية عبر حكم الذهنية القروية قد عزز الذهنية القروية في وعيها بالحياة والسلطة، وأسس للعنف وموت الحوار وموت السياسة
إن أبناء العوجة والقرداحة وسبها والبازورية لم يغادروا ذهنيتهم الفلاحية وعصبياتهم الاجتماعية.
والصراع معهم تم في حقل الذهنية الفلاحية في الغالب إذا استثنينا المدن السورية ودورها في إشعال المرحلة الأول للربيع السوري. وهذا الذي حال دون الإستقرار بعد زوال الأنظمة السياسية السابقة الذكر. بل إن الصراع على السلطة الجديدة صراع أخطر من الصراع على السلطة القديمة. يكفي النظر إلى الصراع في اليمن وليبيا والعراق وسوريا ولبنان المهدد بحرب أهلية جديدة ممكنة.
وهكذا تمت عملية النكوص التاريخي بعد آمال التقدم التاريخ، والنكوص التاريخي لا يولد إلا الوسخ التاريخي.