كاتب و إعلامي سعودي - رئيس تحرير صحيفة "الشرق الأوسط"
في اتصال هاتفي أجراه الرئيس الأميركي الراحل ليندون جونسون مع السيناتور ريتشارد راسيل (مايو/ أيار 1964)، كُشف عنه قبل عدة أعوام، اعترف الرئيس لمحدثه بأن حرب فيتنام قد تطول، وأنه لا يرى في الأفق أية بوادر للحل، وأنه على الرغم من ذلك، فإن الولايات المتحدة يجب أن تستمر في الحرب كي تمنع سقوط دول أخرى لصالح المعسكر الشرقي مثل «أحجار الدومينو»، ثم يعترف جونسون بعد ذلك، بأن الشعب الأميركي لا يكترث بهذه الحرب لأنه لا يدرك أهميتها على المدى البعيد، وأنه قد يخسر شعبيا نظير موقفه، ولكن التاريخ حتما سينصفه. يقول جونسون: «سوف يكون وقعها كالدومينو الذي سيجر معه قائمة طويلة. لذا علينا أن نستعد للأسوأ.. لا أعتقد أن شعب هذا البلد يعرف الكثير عن فيتنام، ولا أظنه يكترث بذلك».
ولكن هل أنصف التاريخ جونسون كما كان يراهن؟ ربما يجدر بالرئيس أوباما الذي يدخل في ولايته الثانية رسميا هذا الأسبوع، أن يعتبر مما جرى لسلفه، فالتاريخ حقيقة لم ينصف جونسون كما كان يأمل، بل ألقت حرب فيتنام بظلالها على كل ما قام به من أعمال مهمة كرئيس. في استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب» عن أكثر الرؤساء الأميركيين المعاصرين عظمة (Greatness)، احتل الرئيس جونسون المرتبة قبل الأخيرة إلى جانب الرئيس نيكسون الذي استقال على أثر فضيحة مذلة، إذ لم تشفع للرئيس جونسون جهوده في إرساء الحقوق المدنية، ولا توقيعه القانون الذي منح السود المساواة في أميركا، ولا شجاعته في مواجهة معارضيه داخل الحزب الديمقراطي الذين حذروه من أن مشروعه «المجتمع العظيم» (Great Society)، الذي كان من بين أهدافه محاربة الفقر، سيشق وحدة الحزب لصالح الجمهوريين. وقال في رد شهير له على المتشككين في مشروعه: «أعلم أن المخاطر كبيرة، وقد نفقد الجنوب، ولكن مثل تلك الولايات سنفقدها على أية حال».
اليوم، يبدو الرئيس أوباما في وضع أفضل، فعلاوة على أنه ورث تركة اقتصادية سيئة من سلفه، فإن ما قام به من إصلاح اقتصادي، وما حققه عبر مشروع «الرعاية الصحية»، وغيرها من القرارات الشعبية، قد منحه ولاية ثانية دون عناء كبير.
كونه أول رئيس أميركي من أصل أفريقي مسلم، وحائزا جائزة نوبل للسلام، يعني بالضرورة أنه دخل بوابة التاريخ، ولكن وراء هذه القائمة الطويلة من الإنجازات تتوارى سياسة خارجية متواضعة، وسجل ضعيف الأداء في ما يتعلق بالأمن والسلم الدوليين، بل يذهب بعض المراقبين إلى القول إن سياسة أوباما الخارجية في ولايته الأولى لا تعدو أن تكون مسارا متراجعا في أداء الدولة العظمى.
بيد أن الانتفاضات الشعبية التي ضربت عددا من العواصم العربية أوائل عام 2011، كانت قد أخذت إدارة أوباما على حين غرة، فما عرف لاحقا بـ«الربيع العربي» شكل صدمة للرئيس أوباما وتحديا لسياسة أميركا في الشرق الأوسط لا يضاهيه إلا احتلال صدام للكويت عام 1990.
في خطاب تنصيبه الأول تعهد الرئيس أوباما بأن بلاده لا تريد أن تفرض نموذجها على أحد، وقد استفاد من سمعته كمعارض للحرب على العراق في كسب ود جمهور واسع خارج الولايات المتحدة، وحتى في منطقة كالشرق الأوسط التي عرفت تاريخيا بمعاداة السياسات الأميركية، فإن شعبية الرئيس الجديد في حينها كانت مرتفعة، ولكن كل تلك الآمال ما لبثت أن تحطمت على صخرة «الربيع»، فقد كان على الإدارة الأميركية أن تختار ما بين الوقوف إلى جانب بعض الأنظمة الحليفة لها، أو تأييد المتظاهرين الشباب في تلك العواصم الذين تذرعوا بلافتات «الديمقراطية»، و«حقوق الإنسان»، «ورحيل الديكتاتور والاستبداد».. بعبارة أخرى، كان على إدارة أوباما الاختيار ما بين مصالحها في الشرق الأوسط، أو الانتصار للمبادئ الديمقراطية.
في تونس اختار أوباما تأييد الانتفاضة/ الثورة؛ حيث لم تكن هناك خسائر كبيرة للمصالح الأميركية برحيل بن علي، ولكن ما إن وصلت شرارة الاحتجاجات إلى مصر، حتى وجدت الإدارة نفسها أمام مأزق؛ هل تلقي بحليفها الهرم تحت عجلات الأوتوبيس – كما يقال – أم تقف بوجه المحتجين لتجبر الطرفين – الحكومة والمعارضة – على خارطة طريق انتقالية في حدود الدستور؟ انقسمت الإدارة على نفسها، فهناك من جادل بأن خسارة الشارع المصري أقل ضررا من تحول «الربيع» إلى دومينو يعصف باستقرار المنطقة، فيما جادل المؤيدون بأن على الرئيس أن يقف على الجانب الصحيح من التاريخ.
اختارت الإدارة الطريق الثاني في الأشهر الأربعة الأولى من 2011، ولكن ما إن وصلت الشرارة إلى ليبيا وسوريا حتى ارتبكت؛ هل تستمر في دعم الانتفاضات الشعبية حتى لو تحولت إلى حمل السلاح، أم تكتفي بالتصريحات وحدها حتى وإن أفسد الديكتاتور الأرض، وأهلك الحرث والنسل؟
بمرور الذكرى الثانية لـ«الربيع» تبدو إدارة أوباما أقل اكتراثا بما يجري للملايين المشردين والمعدمين في المدن السورية التي تحولت إلى مدن أشباح بآلاف القتلى من الأطفال والنساء، والذين لا يبدو أنهم يقفون على الجانب الصحيح للتاريخ بالنسبة للإدارة الأميركية.
في خطابه الأول عن سياسة أميركا في الشرق الأوسط ما بعد رحيل مبارك، امتدح أوباما المتظاهرين الشباب في العواصم العربية بأنهم «جيل جديد قد انبعث، وأصواتهم تقول لنا إن التغيير لا يمكن حجبه». وعن الشاب المصري وائل غنيم الذي صوّت لصالح الإخوان المسلمين في انتخابات الرئاسة، قال: «ليس من المستغرب أن أحد قادة ميدان التحرير كان تنفيذيا في (غوغل)».
من المؤكد اليوم أن الذين انتخبوا في تونس أو مصر ليسوا من جيل «فيس بوك» أو «تويتر» أو حتى «غوغل»، وليسوا بالضرورة معجبين بالديمقراطية الأميركية. كما أنه من الضروري الإشارة إلى أن الشباب السوري لا يحمل اليوم في يديه هواتف ذكية؛ بل بنادق وقنابل يخوض بها حربا دامية.
وفي ليبيا «الثورة» أرادت الولايات المتحدة أن تفتح صفحة جديدة، فجاء رد الإرهابيين بقتل سفيرها في جريمة بشعة.
حاولت إدارة الرئيس أوباما النأي بنفسها عن النتائج الطبيعية لفوضى «الربيع»، فكانت النتيجة أن تمددت الفوضى إلى مالي وأراض أفريقية أخرى بأيدي جماعات أصولية متطرفة. لقد كان القذافي ديكتاتورا تلطخت أياديه بالدماء، ولكن ما من شك في أن تنظيم القاعدة استفاد من فوضى السلاح والأمن التي أعقبت سقوطه.
لقد كالت الصحافة الأميركية المديح للرئيس بوش الابن نهاية عام 2002 بسبب قيادته لأميركا بعد 11 سبتمبر (أيلول)، ولكن قوضت حرب العراق سمعته، رغم أنه قدم لأفريقيا ما لم يقدمه أي رئيس أميركي من مساعدات، ويعترف الرئيس كلينتون بندمه على ما جرى لرواندا، وتقاعس إدارته عن التدخل الإنساني.
لقد وضعت مجلة «إيكونوميست» على غلافها صورة أوباما وهو ينظر إلى المرآة، وكتبت عبارة: «كيف سيراني التاريخ؟». سيكون من المشوق حتما أن نقرأ للرئيس أوباما بعد سنوات عدة من الآن رأيه في «الربيع العربي»، وهل كان حقا على الجانب الصحيح من التاريخ، أم على هامشه.
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط