محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت
بالتصويت الذي حاز الأغلبية وتم الأسبوع الماضي في مجلس العموم البريطاني حول الاعتراف بدولة فلسطينية، حتى وإن كان غير ملزم للحكومة البريطانية، فهو علامة على بدء الإفاقة الدولية، قبل ذلك رئيس حكومة السويد أيضا اعترف بأن هناك ضرورة لقيام الدولة الفلسطينية. بدء الإفاقة هو العودة إلى فهم جذور معظم مشكلات الشرق الأوسط خلال، على الأقل، نصف قرن حتى الآن. إنها فلسطين. لا يجادل عاقل أن فلسطين وما جرى لها هو جرح غائر في الضمير العربي، حملته أجيال متعاقبة، مع شيء من التعاطف خارج هذا الجسم. إلا أن الجسم العربي هو الذي أصابه الضرر الأكبر، وأصابته حُمى اعتقد بعدها أن الشفاء منها هو اتباع كل صوت يصرخ (فلسطين) هو صوت صادق، وجدير بأن يُتبع، ودفع هذا الجسم الأثمان الباهظة لاتباع ما أكثره سراب وأقله قيمة، وما زال يفعل حتى الآن.
حكومات عربية عديدة أخذت الراية الفلسطينية وسارت فيها، من أجل أن تُوغل في قمع شعبها، وكان الشعار هو الدفاع عن فلسطين ومقاومة المحتل، في الطريق حرمت أولا شعبها من أي نسائم للحرية، كما استنزفت موارده، واسترقت رجاله، وأصبح من يخالفها هو (موالٍ لإسرائيل) معادٍ (للقضية)، فاضطرت شرائح واسعة من هذه الشعوب إلى القبول بالاضطهاد والحرمان، وتوسيع السجون، على حساب توسيع المشافي. ودخلت قوى تسمي نفسها (ثورية) تارة وأخرى (مقاومة) على الخط، فعاثت فسادا في العباد والبلاد، باسم الدفاع عن فلسطين.
الفلسطينيون بعد أن ضاقوا ذرعا بما يجري لشعبهم، انساق بعضهم لتكوين جماعات تحارب في أماكن أخرى من العالم، حتى طواحين الهواء، وفي تصورها أن ذلك هو الطريق إلى فلسطين، تبدو شخصيات مثل عبد الله عزام، عراب الجهاد الإسلامي العربي في أفغانستان، الرجل الذي قضى معظم وقته وطاقته في التجنيد لتلك الحرب حتى قضى، حيث كان يرى أن في تحرير أفغانستان الطريق الأصوب إلى تحرير فلسطين، وآخرون كثيرون من أبناء (النكبة) ضلوا طريق فلسطين، وأوغلوا في محاربة الأعداء، اعتقادا منهم أنه الطريق إلى فلسطين، يمكن أن يذكر منهم عصام البرقاوي ومحمد المقدسي وعدد كبير آخر من (المجاهدين) في ساحات بعيدة ركبتهم فكرة أنها أول الطريق لفلسطين.
هجمة مانهاتن الشهيرة التي غيرت جذريا ما جاء بعدها من أحداث سياسية واستراتيجية في العالم، ذهبت إلى هناك باسم فلسطين. كل من يرفع شعار فلسطين يجذب، كقطعة العسل، كل الأنصار دون تساؤل أو تردد، حتى لو كان ذلك العسل طافحا بالسم، وما موقف جماعات عديدة من الساسة الفلسطينيين مع صدام حسين عند احتلال الكويت إلا مظهر من ذلك الانجذاب القاتل، لأنه قال إن تحرير فلسطين يمر بالكويت. كل ذلك بسبب ذلك الجرح الغائر لدى قطاع واسع من الجمهور العربي الذي يشعر بالمهانة لما جرى للفلسطينيين. ويكتشف أهل السلطة في إيران مبكرا وسريعا أن نقطة العسل تلك تأتي بالأنصار وتجند الموالين، فتدخلت الدولة الإيرانية في النسيج العربي من العراق إلى لبنان إلى اليمن إلى أماكن أخرى، هادفة إلى إحداث أكبر خلل في نظام الدولة العربية التي لا تحكم من (المستضعفين) تمهيدا للتحكم المباشر أو غير المباشر في تلك الدولة لتحقق مصالح قومية إيرانية. كل ذلك جرى ويجري تحت ذلك الشعار البراق، الدفاع عن فلسطين.
حتى بعد أن عاد الوعي إلى قطاعات كبيرة من الفلسطينيين، وتبينوا أن ما يتوجب عليهم هو اقتلاع شوكهم بأيديهم بالمتوفر من أدوات الصراع، والتعامل مع العالم بالطرق الذي يعرفها، بقيت شريحة منهم ترتهن إلى ذلك النظام أو هذا، على أمل أنه سوف يساعد في استعادة فلسطين، ولنا في التصرف السياسي للإخوة في حماس، حتى مؤخرا، الأسوة والمثال، وهي أسوة أخيرة ومريرة، على خطى ذلك الانجذاب، فقد اعتقدوا أن تحرير فلسطين يمر بطهران، وربما اكتشفوا الحقيقة مؤخرا، أقول ربما، لأن السياسة قلابة.
بعد الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي ووصول قوى من الإسلام الحركي للسلطة في بلاد عربية عديدة، أذكر أنه دخل علينا في أحد الملتقيات الفكرية، رجل يبدو عليه الوقار، وأخذنا الحديث، وقال إنه يرى أن الوصول إلى بيت المقدس وتحرير القدس بارز كما يرى شمس الظهر، فهو لا شك قادم سريعا بعد التغيرات التي حدثت في بنى السلط العربية، وأسهب الرجل كثيرا في تبرير رؤيته، ولم يكن تفسير ذلك الحماس المشوب بالتمني، لدى بعض الحاضرين، إلا الشوق الدفين والغائر إلى تحرير فلسطين. لقد ارتكبت كل الأشكال من الانتهازية السياسية باسم فلسطين وبعضها من الكبائر، سواء في إغراق الشعوب بالشعارات وتكميم أفواهها باسم (المقاومة) أو في تخريب دول والفتك بمجتمعاتها باسم تلك المقاومة، أو حتى بالتدخل لتمرير مصالح دول، كما تفعل إيران اليوم، كل ذلك باسم مناصرة فلسطين والدعوة إلى تحريرها، ذلك معتمدا على وعي كاذب وشوق لم يتفرغ كثيرون لمعرفة طريقه الأصح، وهو الاعتماد على العقل لا السير وراء العاطفة..
في نهاية الأمر أن يصحو الضمير في بعض الدول الأوروبية، كما حدث مؤخرا في بريطانيا وفي السويد، ويصل إلى قناعة بأن كبرى الكبائر في هذه المنطقة المنكوبة، والتي فجرت كل هذه الصراعات، هو ما وقع على شعب أعزل من صلف وتجبر، وما زال يفعل بالقوة المفرطة وبالهجوم الدبلوماسي وبالتخويف والإرهاب، هو الذي يجب أن يعالج ويوضع حد له. فالتعامل مع الجذور هو الطريق الأجدى لحل المشكلات. بقي أن يبذل الفلسطينيون جهدهم مع ظهير عربي للاستفادة من الوعي الأوروبي المتأخر ويسعوا آفاق اتساعه.
آخر الكلام:
طيب أن يعود الوعي لبعض العرب، ويتمعنوا في قول طهران مؤخرا، تحذيرا لواشنطن، إن الإطاحة بالأسد ضرر بالغ على أمن إسرائيل!
المصدر: الشرق الأوسط
http://www.aawsat.com/home/article/203731