غرض هذه المقالة هو إيضاح الفارق بين الدين والظاهرة الدينية، أي بين الإيمان والعرف الاجتماعي. لهذا نبدأ بالتمييز بين التدين الفردي ونظيره الجمعي.
الدين في جوهره المنفرد الذي لا يخالطه شيء، علاقة بين الفرد وخالقه. يتأثر قبول الفرد للدين بالعديد من العوامل الخارجية. لكنه في نهاية المطاف رهن بالإرادة الواعية للفرد، الذي سيحمل أعباء الالتزام الجديد والاستمرار فيه. بهذا المعنى فإن الإيمان فعل فردي في الجوهر، بداية واستمراراً.
أما التدين الجمعي فهو وصف للمظهر العام، أي المجال المشترك بين مجموع المؤمنين.
ينتج المجال المشترك نمطاً متمايزاً من العلاقات الإنسانية، تبرز في مضمونه أو مظهره الرموز الدينية. من ذلك مثلاً التبادلات الثقافية كالصحافة والخطب والمدارس، التي تتخذ الدين موضوعاً لها ووظيفة ثابتة لأصحابها. وكذا التجارة في السلع التي تخدم الحياة الدينية كطباعة الكتاب الديني وصنع سجادة الصلاة وتنظيم حملات الحج، وكذلك الاحتفالات والعروض الفولكلورية والنشاطات الاستعراضية التي تستعمل لغة دينية. ومنها أيضاً الأزياء والملابس التي تشير إلى التزام ديني أو طقس ديني.
بعبارة موجزة، فإن الحديث عن التدين الجمعي، يتناول الإطار المادي والمظاهر الخارجية، الجمعية خصوصاً، التي تدل الناظر على القناعات الدينية للمجتمع، كما تدل على الأرضية القيمية للسلوكيات والأعراف العامة. قد يكون المشاركون في هذه السياقات مؤمنين أتقياءَ، وقد يكونون غير مؤمنين على الإطلاق. لكنهم جميعاً يشاركون في نموذج سلوكي وحياتي عام، يشكل نوعاً من موقف جمعي أو ما نسميه أحياناً دائرة مصالح اجتماعية.
ينطبق هذا الوصف على كافة المجتمعات المحافظة، التي يلتزم غالبية أفرادها بتعاليم الدين. ولا يختلف حال المجتمع المسلم عن المسيحي أو البوذي أو غيره. إنه أشبه بعرف ثابت، لا يتغير إلا حين يجرد الناس قناعاتهم الدينية الخاصة عن تمظهراتها الاجتماعية، مثلما يحصل حين يعيش المسلم في قرية مسيحية أو المسيحي في مدينة مسلمة.
وكما يتقلَّصُ التمظهر الاجتماعي للتدين في ظروف معينة، فإنه يتصاعد في ظروف أخرى. يتصاعد ويتسع حتى يهيمن على مجالات حياتية ومجتمعية، كانت في العادة خارج إطار العلاقات الدينية. في هذه الحالة يتحول التدين الجمعي إلى ما يسمى المد الديني. وقد شهد المجتمع العربي تحولاً من هذا النوع أواخر القرن الماضي، وجرى تعريفه باسم «الصحوة الإسلامية».
هذا التحول هو ظاهرة اجتماعية، تشكلت بفعل مؤثرات في المجتمع نفسه وفي خارجه. وليس لتلك المؤثرات علاقة مباشرة بالدين. بعبارة أخرى، فإن المد الديني حراك اجتماعي ذو طبيعة تاريخية، لبس رداءَ الدين واستعمل لغتَه، خدم الدينَ في ناحية، كما استخدمه في ناحية أخرى. إنه – على وجه الدقة – تعبير عن حاجات اجتماعية في وقت محدد.
ومثل سائر الظواهر الاجتماعية، تولد عن المد الديني آليات وأنماط عمل جديدة، ساهمت في إعادة ترتيب القيم والأولويات، وتبعاً لها، العلاقات بين أفراد المجتمع. من ذلك مثلاً أن الشكل الديني تحول إلى عامل تفضيل للشخص، يفوق تأثيره العوامل الأخرى كالثروة والعلم والنسب.
في سياق هذه الظاهرة كان الدين يلعبُ دور الوسيط في العلاقة بين الأطراف الاجتماعية، سيما بين منتجي المادة الدينية ومستهلكيها، وليس دورَ الهدف أو معيار التقييم. لهذا السبب بات الأبرعُ والأبلغُ في الحديث عن الدين، أكثرَ نفوذاً وتأثيراً من العالم بالدين. لأنَّ الدينَ – كما سلف – وسيطٌ، وبالتالي فإن جانبه الرمزي، أي الصورة والشكل واللغة، هو نقطة التقييم الرئيسية ومحور العلاقة بين الأطراف.
المصدر: الشرق الأوسط