المشهد الختامي: الرئاسة الامبريالية
اختفت ولكن ماتزال في الذاكرة – بقلم: ديفيد أنديلمان
ورلد بوليسي جورنال
تصريح خاص وحصري للترجمة والنشر في “الهتلان بوست”
ترجمة: الهتلان بوست
في ماضٍ ليس ببعيد، كان مكتب الرئيس يتمتع بسلطات مطلقة، وكان للرئيس سلطات لا تختلف عما تمتع به كبار الأباطرة قديماً، حيث كان بمقدوره إعلان الحرب والسلم، بل والإقدام على تصرفات ربما تغير مسار التاريخ. في الأنظمة السياسية سواء أكانت ديموقراطية أم قائمة على حكم الأقلية، أو في أنظمة بعيدة كل البعد عن نمط الديكتاتورية التقليدية، كان الرؤساء مازالوا يتمتعون بسلطات غير محدودة. لكن لم يعد الأمر كذلك.
فبينما أشعل الرئيس الامبريالي المتعجرف شارل ديغول الحروب في الجزائر وشبه الجزيرة الهندية الصينية من دون أن يتكبد عناء الالتفات إلى الجمعية الوطنية التي تقع على الضفة الأخرى من نهر السين مقابل قصر الشانزليزيه والتي كانت تجتمع بانتظام، اليوم يجد فرانسوا هولاند نفسه مضطرًا لإحالة جميع القرارات السياسية من أكبرها إلى أصغرها إلى البرلمان. وبينما كان يجتمع ونستون تشرشل إلى حلفائه الأمريكان في لندن للدفاع عن الإمبراطورية دون الرجوع إلى مجلس العموم الذي يقبع على بعض أمتار، يقف اليوم خليفته ديفيد كاميرون صاغرًا أمام نفس المجلس لسبع ساعات محاولاً إقناعه بالانضمام للجيش الأمريكي ذاته في سوريا، تلك الدولة الشرق أوسطية التي لا تربطها بدول الكومنولث سوى روابط قليلة.
نادرًا ما كنا نرى رؤساء دول أو حكومات في التاريخ الحديث مقيدين بنفس القدر الذي نراه اليوم. فالمسؤولون اليوم أسرى لصندوق الانتخاب، بالإضافة إلى اهتمامهم بصورتهم التي سيذكرهم بها التاريخ فيما بعد.
في بداية هذا العام، قررت أن أكرس كل مشهد من مشاهدي الأربعة (في مجلة وورلد بوليسي جورنال) لمناقشة فرع مختلف من الحكومة يؤثر بشكل مباشر على الشعب الذي يحكمه. حتى الآن، ناقشت موضوعات القضاء، والبيروقراطية أو الحكومة الدائمة، والسلطة التشريعية. والآن جاء دور مناقشة أعلى سلطة – من الناحية النظرية – والتي تنبثق منها جميع السلطات نزولاً إلى بقية الحكومية، كما أنها في الوقت ذاته، في أفضل الظروف، نابعة من الشعب، إلا أنها تتجه في اتجاه واحد في الأغلب. ويعتبر هذا الخلل- دون غيره مما يظهر في الحكومات- أساسيًا في مساعدتنا على فهم كيف يَحكم الحاكم وكيف تُحكم الشعوب.
السلطة للشعب
في مارس 1983، اجتاحت موجة من الفزع أجزاء من إفريقيا عقب محاولة الديكتاتور الليبي معمر القذافي غزو دولة تشاد المجاورة لليبيا من الناحية الجنوبية التي تقع بين مطرقة الصحراء وسندان الغابة. أرادت القوات الليبية اختراق الصحراء والوصول إلى قلب تشاد. وكان الفرنسيون- الذين سيطروا على هذا الجزء من أفريقيا لما يزيد على قرن من الزمان- مازالوا يحتفظون بروابط اقتصادية وسياسية وثقافية وطيدة مع مستعمرتهم السابقة، لذا لم يكن من المستغرب أن تتحرك فرقة من الفيلق الأجنبي الفرنسي باتجاه العاصمة نجامينا في استعراض للقوة. وفي الوقت ذاته عوّل حاكم تشاد الطاغية على دعم الديكتاتور موبوتو سيسي سيكو، رئيس جمهورية الكونغو الديموقراطية، وإن لم يكن يحمل من صلاحيات الرئيس سوى المسمى فقط. إن كان هناك ما يمكن أن يطلق عليه الرئيس الامبريالي، فكان ذلك يتجسد في شخص موبوتو، الذي استمر رئيسًا بدون منافسة تذكر لمدة 32 عامًا لتلك الدولة الغارقة في الفقر، والتي غير اسمها إلى زائير فيما بعد، وتمكن خلال هذه الفترة من جمع ثروة طائلة بلغت ذروتها عام 1984 حيث قدرت بخمسة مليارات دولار (ما يوازي 11 مليار اليوم)؛ وكان مشهوراً باستئجاره لطائرة كونكورد الأسرع من الصوت للقيام برحلات تسوق في باريس. كانت سلطاته مطلقة سواء داخل دولته أو خارجها في أجزاء من قارة إفريقيا. وقد ألتقيته للمرة الأولى وهو في ذروة نفوذه.
أما حسين حبري -رئيس دولة تشاد المحاصرة جغرافيًا- فقد كان صورة مصغرة لشخصية موبوتو، حيث ولد حبري في مدينة فايا لارجو وهي إحدى الواحات في عمق الصحراء الوسطى حيث درجات الحرارة المرتفعة جدّا في النهار. تقلد حبري السلطة إثر إنقلاب عسكري في العام الذي سبق ذهابي إلى هناك، وسرعان ما رسخ أقدامه في السلطة كرئيس (عن طريق التنصيب الذاتي بالطبع) واستخدم في سبيل ذلك مؤسسة شرطية سرية كوّنها خصيصًا لذلك الغرض تسمى إدارة الأمن والتوثيق والتي انتهجت أساليب قمع تتضمن رش الغاز في عيون وآذان وأنوف المعارضين، وإجبار المعتقلين على وضع أفواهم في أنابيب عادم السيارات وهي في حالة تشغيل، إضافة إلى الطرق التقليدية بالغمر في الماء والتي لم ينجو منها سوى القليل.
كان حبري يتوقع قدوم دبابات القذافي والتي يحتمل أن تشق طريقها مباشرة إلى مسقط رأسه. لذا لم يكن من المستغرب على رئيس تشاد الذي كان قد تقلد للتو السلطة عن طريق انتخابات ديموقراطية شكلية أن يحتاط للموقف ويسعى للحصول على الدعم من أحد القادة المحليين ممن له وجهات نظره في الحوكمة أكثر ملاءمة من رئيس فرنسا الاشتراكي فرنسوا ميتيران على بعد 3000 ميل- وكان هذا القائد هو موبوتو.
في صباح السبت 20 أغسطس 1983 هبطت طائرة موبوتو الرئاسية في مطار نجامينا، وكما توقع الرئيسان اتجهت أنظار الصحف في العالم إلى هذا الحدث. أراد الرئيسان استعراض صورة أمام القذافي وقواته لما قد يواجهونه، بجانب كون المناسبة فرصة لتشتيت انتباه الشعب عن مشاكله القائمة. وقد كان اللقاء بالفعل مشهدًا كما أراداه أن يكون، حيث حرص فريق حبري على جلب الحشود التي اصطفت طوال الطريق من المطار إلى وسط المدينة في صورة كرنفالية. انفتح باب الطائرة وخرج موبوتو مرتديًا سترته الطويلة المميزة المصنوعة من جلد الفهد والقبعة المصنوعة من نفس الجلد، والنظارة الشمسية الضخمة العاكسة كالمرآة. هبط موبوتو درجات سلم الطائرة بكل ثقة، وركب سيارة جيب ضخمة ترتفع إطاراتها إلى أعلى من مستوى كتفيه، ووقف في الجزء الخلفي من السيارة ممسكًا بعصا طويلة من خشب الأبنوس طرفها مذهب، وأشار بيده للسيارة لتتحرك ببطئ عبر الطريق. تقدم السيارة موكب من الحرس بلباسهم المحلي وهم يقرعون على الطبول بصوت مرتفع ويصاحبهم صياح الحشود “مو-بو-تو، مو-بو-تو، مو-بو-تو”. كان مشهدًا مهيبًا ومسرحيًا ونجح في إظهار قوة الرئاسة على نحو لم أشهده من قبل. وبالمناسبة، لم يقدم القذافي على غزو تشاد.
بالطبع، مازال هذا النمط من الطغاة الذين يرتدون ثياب الرؤساء موجودًا في أنحاء كثيرة من العالم. فمنذ استقلال جمهورية بيللاروسيا السوفيتية عام 1994 لم تعرف بيللاروسيا أي رئيس سوى الستاليني الكسندر لوكاشينكو الذي حكم البلاد بقبضة حديدية، إضافة إلى تأثيره على جميع الصناعات الرئيسية والجوانب المالية والإعلامية ومظاهر الحياة الأخرى، ليجعل دولته أشبه بالمعسكر المحاصر بين بولندا وروسيا وأوكرانيا. أما المالديف، تلك الدولة الجزيرة الصغيرة في المحيط الهندي، فقد ظل رئيسها مأمون عبد القيوم متمسكًا بكرسي الرئاسة لقرابة 30 عامًا ومازال يحاول التشبث به أمام محاولات شعبه التطلع نحو الديموقراطية. جمع عبد القيوم ثروة ضئيلة مقارنةً بنظيره تيودورو أوبيانغ نغيما مباسوغو الذي مازال يشغل منصب رئيس جمهورية غينيا الإستوائية الغنية بالنفط منذ أغسطس 1979، ويقال أن ثروته تزيد عن 600 مليون دولار أمريكي. هؤلاء الحكام وغيرهم من قادة العالم الذين يحملوا اسم الرئيس فقط، يحكم كل منهم حسب رغباته متجاهلاً الشعب الخاضع لسيطرته. فعلى سبيل المثال يحذر لوكاشينكو رئيس بيللاروسيا أن وجوده كرئيس هو الذي يقف حائلا بين شعبه وبين عدم الاستقرار، والفقر الذي هيمن على مناطق كبيرة من الاتحاد السوفيتي السابق، كما يحميهم من عمليات السلب التي تقوم بها عائلات المافيا الروسية.
الصعود إلى الهاوية
إذا كانت هذه الحالات أمثلة متطرفة لشكل الرئاسة، فربما تمثل فرنسا اليوم طرف النقيض. ففرانسوا هولاند يختلف كثيرًا عن فرانسوا ميتيران، آخر رئيس اشتراكي لفرنسا والذي كان يتسم بالعجرفة، ففرانسوا ميتيران كان القائد المتحكم في كل كلمة تصدر عن إدارته وعن كل الأفعال التي تخرج من قصر الشانزليزيه، وكان يمتلك حسًا فطريًا فيما يتعلق بالطريقة المثلى التي يتبعها في الحكم حيث استغل جميع الفرص لتحقيق أقصى قدر من التأثير. وعلى الرغم من أن سلطات مكتب الرئاسة في عهده كانت تتضاءل مقارنة بالسلطات الواسعة التي كان يتمتع بها شارل ديجول، إلا أن ميتيران بذل أقصى جهده ليحد من سرعة تناقص تلك السلطات.
في إحدى الأمسيات، أجرى وزير الخارجية الفرنسي كلود شيسون مفاوضات دبلوماسية سرية في الكي دورسيه (Quai d’Orsay) وخرج مسرعًا من وزارة الخارجية متجنبًا حشود الصحفيين الفرنسيين والغربيين التي تنتظره. وضعت أنا أمامه ميكروفون إذاعة سي بي إس وطرحت عليه سؤالا باللغة الإنجليزية، فأجاب عليه شيسون تلقائيًا بلغة إنجليزية متقنة ليختفي بعدها في سيارته السيتروين السوداء قبل أن يتمكن الصحفيون الفرنسيون من طرح أسئلتهم عليه باللغة الفرنسية. كان ميتيران يجتمع في كل مساء بمجموعة من وزرائه ومستشاريه في الشانزليزيه لمتابعة نشرة أخبار الساعة الثامنة المحلية. في هذا المساء اضطر التلفزيون الفرنسي أن يذيع المقطع الذي سجلته أنا، والذي أجاب فيه شيسون على سؤالي باللغة الإنجليزية، مع وضع ترجمة لكلامه باللغة الفرنسية. “ياله من أمر محرج!”، أصيب ميتيران بالامتعاض. “وزير فرنسي يتحدث بالإنجليزية على التلفزيون الفرنسي!!”. أؤكد لكم أن هذا المشهد لم يتكرر ثانية أبدًا، فبعدها أصبح من المستحيل أن يتحدث أي من أعضاء الحكومة الفرنسية باللغة الإنجليزية.
لم يكن هذا سلوكاً لتجميل صورة الرئاسة، بل كان صورة لخضوع جميع الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية لسيطرة ميتيران والمجموعة الصغيرة من المستشارين المحيطين به، لمدة 14 عامًا وهي فترة لا يمكن لأي رئيس فرنسي قادم أن يقضيها، ففي عام 2000 تم تعديل الدستور ليسمح بفترتين رئاسيتين كحد أقصى، تمتد كل منهما لخمس سنوات فقط، ولكن الآن، وبعد تعاقب ثلاثة رؤساء، تغير الكثير، ليجد فرانسوا هولاند نفسه في موقف صعب مثله مثل الكثيرين من رؤساء فرنسا ولكن مع تمتعه بفرص أقل منهم للمناورة.
“إنه في مأزق شديد” هكذا كتب فرانسوا فريسوز، المحرر اللامع الذي يكتب افتتاحيات صحيفة اللوموند الفرنسية اليومية الشهيرة وأكمل “بسبب اعترافه بأخطائه الاستراتيجية وهو مازال في سدة الحكم هذا بدوره قوّض مصداقيته الرئاسية بشكل أكبر. ولكن استمراره في السلطة أدى إلى استمرار استنزاف قدرته على العمل. قد يكون فرانسوا هولاند يتمتع بالفعل بجميع السلطات الرئاسية، إلا أنه غير قادر على فرض نفسه كقائد.” كتب فرانسوا فريسوز هذه الافتتاحية في اليوم التالي لهبوط التصنيف الائتماني لفرنسا من AA+ إلى AA وفقًا لشركة ستاندارد آند بورز ، وبعد عام واحد من فقدانها لمكانتها الائتمانية المرموقة AAA. وجد هولاند أنه من المستحيل إخراج بلده من بين براثن اليأس كما فعل سلفه اليميني نيكولا ساركوزي. وبالفعل إنهارت شعبيته بشكل محزن في نوفمبر لتصل إلى 20% فقط، وهي النسبة الأقل على الإطلاق منذ أن شكل شارل ديجول الجمهورية الخامسة عام 1958وطبق نظام الانتخاب لأول مرة في فرنسا.
إلى حد ما، يعتبر هذا الإضعاف للرئاسة الإمبريالية مسألة تتعلق بالأجواء المحيطة، ولم يكن مقتصرًا بأي حال من الأحوال على فرنسا. ففي هذا العالم متعدد الأقطاب، حيث تحاط الشعوب بمجموعة من المؤثرات وتتعرض للكثير من الأصوات التي تتعالى من جميع الاتجاهات يعرض كل منها حلولاً جذابة، مما أدى إلى إضعاف القيادة الرئاسية أو أي نوع أخر من القيادة على نحو خطير في الواقع.
في عام 1980 عندما وصلت إلى باريس في بداية رئاسة ميتيران، وحتى عندما عدت مرة أخرى إلى الولايات المتحدة بعد ذلك بسبع سنوات، لم تكن شبكة الإنترنت قد انتشرت بعد. ففي كل مساء، كانت تذاع نشرة محلية على كل من شبكتي التلفزيون المحليتين، حيث كانت تعرض النشرة أخبار الحكومة ووزرائها، وبعض الجرائم الكبرى التي تهز المجتمع، وأخبار الأفلام الجديدة والأزياء، وبالطبع الرياضة والطقس. وفي الصباح التالي تزخر نحو ست صحف بأراء سياسية مختلفة تتراوح من أقصى اليسار مثل جريدة “لومانيتي” المملوكة للحزب الشيوعي الفرنسي، مرورًا بجريدة ليبيراسيون الليبرالية ولوموند الوسطية وانتهاءً بجريدة لوفيغارو المحافظة. ولكن كان الرئيس هو محط أنظار الحكومة، والمال، والمجتمع، بل الوطن ككل. أما اليوم، فلم يعد الحال كذلك. فأصبح في فرنسا –وكذلك في الكثير من دول العالم المتحضر- هناك العديد من القوى التي تتنافس على جذب الانتباه والولاء.
لا يمثل قرار فرنسا تقليص عدد فترات حكم رؤسائها، سوى القشرة الخارجية لعملية تحويل عميقة تجرى على أنماط الرئاسة حول العالم؛ ففي الواقع أصبح تقييد عدد الفترات الرئاسية هو القاعدة وليس الاستثناء. وبالفعل، لم يعد سوى القادة الديكتاتوريين في بيللاروسيا وأوغندا هم من يتمتعون بفترة رئاسية غير محددة. وتسمح كل من صربيا وفنزويللا بعدد غير محدد من الفترات الرئاسية، تمتد كل فترة لخمس سنوات في صربيا، وست سنوات في فنزويلا. وتترك دولة طاجيكستان رئيسها إمام علي رحمانوف في سدة الرئاسة لثلاث فترات رئاسية – تمتد كل منها لسبع سنوات – نظرياً- ولكن في الواقع، فهو ما زال في منصبه منذ عام 1994 ولا تبدو أي علامات تشير لنيته في التقاعد. وينطبق نفس مبدأ الرئاسة مفتوحة النهاية أيضًا على رئيس إيطاليا، إلا أن الأمر يختلف لكونه منصبًا شرفيًا فهو ينفذ إرادة البرلمان على أية حال. ويسمح لرؤساء كل من جمهورية الكونغو، ورواندا، والسنغال، وأوزبكستان، وأيرلندا (مثال أخر للمنصب الشرفي) بالاستمرار في مناصبهم لفترتين رئاسيتين تمتد كل منهما سبع سنوات.
قوة التغيير
توضح هذه القائمة تمتع عدد قليل فقط من الرؤساء الذين جاءوا إلى السلطة عبر نظام انتخاب حقيقي بالسلطة التي كان يتمتع بها أسلافهم. أما من بقى من الرؤساء الامبراليين فهم الذين اغتصبوا سلطاتهم على نطاق واسع واحتفظوا بمكتب الرئاسة اسمًا فقط. إلا أن هذا التحوّل في موازين القوى وتوزيع السلطات أدى إلى تفكك في التواصل على الساحة العالمية وأضعف من القدرة على الإقدام على أي مبادرات للتحول.
في الصيف الماضي، احتفل الإيرانيون بانتخاب رئيس جديد يتسم بالانفتاح إلى حد ما، فللوهلة الأولى، بدا حسن روحاني أنه لطيفاً إلى حد ما مقارنة بسلفه صعب المراس. فسرعان ما أقر روحاني أن ملايين من اليهود قد يكونوا قد تعرضوا بالفعل للحرق في الهولوكوست النازي الذي لم يكن قصة تاريخية خيالية، وتلقي مكالمة الرئيس أوباما الهاتفية في طهران وتحدث معه بشكل ودي لبضع دقائق (وإن كانت المصافحة باليد في الأمم المتحدة قد كانت لتبدو خطوة بعيدة في ذلك الوقت). وسرعان ما عاد فريقه إلى طاولة المفاوضات مع الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن إضافة إلى ألمانيا في محاولة لإحراز بعض التقدم في وقف طموحات إيران النووية، وفي نفس الوقت رفع مجموعة العقوبات التي تخنق الاقتصاد الإيراني.
وهنا تظهر القيود المفروضة على السلطات الرئاسية لتفرض نفسها مرة أخرى على الجانبين. فعلى الصعيد الإيراني، لا يمتلك الرئيس ولا وزير خارجيته الكثير من السيطرة على مثل هذه القضية الوجودية بالنسبة لإيران. وقد أخبرني بذلك أحد حكام إحدى الدول شرق أوسطية القريبة بينما كانت الجولة الأولى من المحادثات دائرة حيث قال: “قد يكون روحاني قادرًا على فعل الكثير فيما يخص شؤون بلاده الداخلية، فهو يمتلك هامشاً من الحرية للمناورة في الاقتصاد، ولكن إذا تعلق الأمر بالشؤون الخارجية والاستراتيجية، فلا يوجد سوى شخص واحد هو الذي يحرك جميع الخيوط.” إنه المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي.
لم يكن الأمر على الجانب الأخر من الطاولة يختلف كثيرًا، فعلى الرغم من عدم وجود آية الله أو غيره من الرموز الدينية وراء الستار، إلا أن قدرة رؤساء الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا والصين ورئيس وزراء بريطانيا وحتى المستشارة الألمانية تخضع جميعها لقيود عندما يتعلق الأمر بالتوصل لصفقة على مستوى مبادرة لها آثار كبرى مثل تلك المتعلقة ببرنامج الأسلحة النووية الإيراني. فالرئيس أوباما يواجه مشكلات مع مجموعة كبيرة في الكونغرس تفضل تشديد العقوبات على إيران بدلاً من تخفيفها، وترغب هذه الكتلة في أن ترى إيران تعود لعصور الظلام مرة أخرى. أما رؤساء روسيا والصين، فلديهم هامش أوسع من المناورة إلا أن أيديهم تظل مقيدة بسبب التزاماتهم السابقة التي أعلنوها بدعم الطموحات الإيرانية التي تبدو أنها ستقودهم إلى اتجاه غير متسق مع معظم دول العالم المتحضر. باختصار، هل يرغب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جين بينغ حقاً في أن تكون دوليتهما منبوذتان من أغلب دول العالم؟
هذا يقودنا للمجموعة التالية من القيود المفروضة على سلطات الرئاسة الامبريالية اليوم وهي الصورة أمام المجتمع الدولي. في الماضي، كان من الممكن للقائد الوطني أن يبرم الاتفاقيات دون الرجوع إلى أي قوى أخرى بخلاف بطانته المقربة. ففي مؤتمر باريس للسلام حيث تم إبرام معاهدة فرساي التي أنهت الحرب العالمية الأولى، فرض قادة كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا شروطهم للسلام على كل من ألمانيا والنمسا والمجر المهزومين بالإضافة إلى الإمبراطورية العثمانية التي كان قد أصابها الوهن بالفعل. وأحرز الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون خطوات كبيرة نحو تحقيق هدفه الرئيسي وهو إنشاء عصبة الأمم، إلا أن إخفاقه في الاتفاق مع الكونغرس أدى إلى نهاية مأساوية للعملية بأكملها. ومن النقاط الجديرة بالاهتمام في هذا السياق وفدا كل من اليابان والصين وكان يترأسهما شخصيتان تقوما بدورهما في الظل، حيث كان يترأس وفد اليابان الأمير كينموتشي سايونجي- آخر من حصل على لقب جنرو- ويتنمي إلى إحدى العائلات الملكية القديمة التي تنحدر من مدينة كيوتو الإمبراطورية، وكان يترأس وفد الصين لو تشينغ تشيانغ الذي يماثل الأمير كينوموتشي في المركز والوجاهة. ولم يكن أيّ منهما قد ظهر قبل ذلك على الملأ، واكتفى رئيسا الوفدين بتحريك خيوط المشهد من وراء الستار تاركين الدبلوماسيين والسياسيين يقولون الكلمات التي أعداها بعناية بالنيابة عنهما أمام الجمهور.
الالتزامات
اليوم لم يعد لهذه الحيل في استخدام السلطة الكثير من التأثير، فالرهانات أعلى بكثير، والاختلافات أعمق. فكل يوم، يضطر أصحاب المصالح المالية والتجارية إلى التعهد بالتزامات معينة. وقد يكون لمثل هذه الخيارات تأثيرات عميقة على مسار التطور والنمو الاقتصادي للدولة – مثل مكان تصنيع الجيل التالي من الأجهزة الإلكترونية، واختيار موقع بناء أحد السدود أو مشروعات الطاقة، واختيار موقع للتنقيب عن النفط أو الفحم أو غير ذلك من المعادن الثمينة. تعتمد هذه القرارات على عمليات حسابية معقدة تشمل المخاطر في تلك الدولة، ودرجات الاعتمادية، والثقة في القيادة العليا، وكذلك التوافق، والأمانة والاستمرارية.
ويبدو أن روسيا الآن – برئيسها الذي يدخل في العقد الثالث من الامساك بالسلطة من دون منافسة- تنحدر أسهمها بسرعة على جميع الأصعدة. فالرئيس بوتين يبدو ظاهريًا أنه أقوى من أي رئيس أخر منتخب اليوم، إلا أنه فعليًا أقرب في الشكل والأداء إلى قادة روسيا السوفيتية ووريث حقيقي لنمط القيصر الذي يفصله عنه ألف عام أو أكثر. مَن غيره من بين حكام الدول الكبرى في عالم اليوم ترك السلطة ثم عاد إليها ثانية بينما في الواقع لم يتنازل للحظة عن الإمساك بزمام بلده؟ إلا أن بوتين أيضًا مثله مثل أي من نظرائه الغربيين تقيده أغلال من داخل بلاده تتساوى في ضررها مع تلك التي تنخر في مراكز كل من الرئيس الأمريكي أوباما أو نظيره الفرنسي هولاند أو رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون. ولكن بالنسبة إلى روسيا – التي تمتلك نظاماً ديمقراطياً خاصاً بها يعد أقرب إلى حكم الأقلية – فإن حكم الرئاسة واسعة السلطات بدأ يتهاوى بسرعة مثلما يحدث في أي ديمقراطية غربية. وإذا أراد بوتين الحفاظ على سلطاته الواسعة، فعليه أن يرد الصنيع لكل من ساعده على الوصول إلى رأس السلطة ومن يدعمونه الآن للبقاء في منصبه وهم القلة الحاكمة أو الفاسدين في المؤسسة الروسية. ولكن النفط الروسي الذي يعتبر العملة الرئيسية لها يعاني انخفاضًا في القيمة وركودًا في الطلب. فعلى الرغم من أن روسيا قد تخطت المملكة العربية السعودية كأكبر منتج للنفط في العالم، إلا أن قيمة هذه السلعة ترتفع وتنخفض كما حدث مؤخرًا وفقًا للمد والجزر في الأزمات العالمية، وخاصةً في حزام النفط في الشرق الأوسط. إلا أن تأثير هذه الأحداث ينخفض كمحدد للطلب على النفط. فالولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر أكبر مستهلك للنفط في العالم تتجه الآن نحو الاكتفاء الذاتي، بينما الصين التي تحتل المركز الثالث عالميًا في الاستهلاك تعقد صفقاتها الجانبية الخاصة بها في زوايا العالم البعيدة. إذاً، ماذا يفعل بوتين الذي ينتهج نمط حكم الأقلية في ظل هذا الفقر في النفط؟ بعد فقدان روسيا لمركزها كقوى عظمي في العالم، أصبحت تمثل مصدر إزعاج إقليمي بجانب كونها في أسوأ الحالات مفسدة للعلاقات الدولية. إلا أنها قبل كل شئ تمثل رهاناً سيئاً عندما يتعلق الأمر بالاستثمارات المالية الضخمة طويلة الأمد.
في هذا الإطار المهم، فإن الرئيس الجيد الوحيد في عالم اليوم، هو من يمكن التعويل عليه للحفاظ على قدر يسير من الاتساق والذكاء في استخدام القوة وتوزيعها على السلطات القضائية والتشريعية والبيروقراطية التي كتبنا عنها في هذا المكان أوائل هذا العام. في ما يسمى الديموقراطية الخالصة، يوجد مفهوم من المراجعات والتوازنات التي صممها الآباء المؤسسون للولايات المتحدة للحد من السلطات التي كانوا مستعدين لمنحها لقائد واحد هو الرئيس. في الواقع، هناك فرق جوهري واحد بين الرئيس والمكونات الأخرى للحكومة الديموقراطية التي تحدثنا عنها. فسلطة الرئيس هي الفرع الوحيد من الحكومة الذي يخضع لسيطرة فرد واحد. يمكننا القول أننا وصلنا لجوهر الرئاسة الحديثة. وكما كان لويس الرابع عشر مغرمًا بمقولته الشهيرة “أنا الدولة، والدولة أنا”، فإن الأمر لا يختلف كثيراً بالنسبة للرؤساء في عالم اليوم. ولكن المشكلة بالطبع أنه على مدى القرون، فإن القوى داخل وخارج الحكومة، تسحب من القوى الأحادية التي كان يتمتع بها الرئيس، ويظهر ذلك بشكل خاص في الجانب الاقتصادي حيث تكمن القوة بالأساس.
اليوم هذه هي العملة الرئاسية الأساسية، فبينما كانت سلطات الرؤساء فيما مضى ترتفع وتنخفض وفقاً للدور الجيوسياسي للإمبراطوريات، وهو المحافظة على المسارات البحرية أو الاتصالات مع المستعمرات البعيدة (هل تتذكر الأيام عندما كانت بريطانيا الإمبراطورية التي لا تغرب عنا الشمس أبداً؟)، أصبحت السلطة اليوم معتمدة على سمعة المؤسسات العملاقة التي تعتبر القوة الحاكمة الفعلية للإمبراطوريات الجديدة. فقد أصبحت عملة السلطة لرؤساء اليوم هي موقع بناء مصانع جديدة لمرسيدس، أو فيات، أو فورد، أو جنرال موتورز، أو الموقع الذي ستبني فيه شركة آبل أو سامسونج مصانعها لتجميع أحدث هواتفها الذكية، وأين ستبحث “بي بي” أو “بي اتش بي” عن النفط أو النيكل أو غيرها من المعادن النادرة، إلى جانب اعتماد خطوط السكك الحديدية وشبكات الأنابيب التي تنقل هذه السلع إلى الأسواق.
في هذا العدد من المجلة، نناقش التناقضات المتعلقة بالهند والصين فالأولى تتبع النمط الديموقراطي الحقيقي والفعّال، والثانية تعمل وفق حكومة مركزية وكلاهما تحت قيادة رئيس. على الرغم من اشتياق الكثير من الصينيين للديموقراطية التي تمكنهم من أن تكون لهم كلمة في اختيار رئيسهم، إلا أنهم ينظرون إلى الديموقراطية الحقيقية في الهند على أنها مجموعة متنافرة من المصالح المتعارضة مقيدة بشكل يائس إلى عقدة البيروقراطية، ويعيشون في ارتباك وقذارة، ولا تتوافر لهم سوى فرص ضيئلة لتكوين ثروات حقيقية. أما الهنود، على النقيض من ذلك، يحتفون بقدرتهم على الحديث والتصرف بحرية، ويفخرون بقدرتهم على اختيار قادتهم ويعتمدون على وحدة العائلة وليس على الدولة لضمان رفاهيتهم. إلا أنه في نهاية الأمر طرقت المشروعات الدولية باب الصين باستثمارات وعقود وتجارة ضخمة الأمر الذي يشير إلى نجاح تلك الدولة وقائدها في العالم الحديث. وتظل الصين واحدة من الدول الرئيسية القليلة التي تخضع لقيادة رئيس يمكن اعتباره من النمط الإمبريالي بمنظوره الكلاسيكي لفترة ما قبل الحداثة. ربما يجدر بنا أن نتأمل مليًا في قيمة هذا النوع من السلطة في حالة استخدامها بحكمة وأمانة ولصالح الأغلبية وليس الأقلية. لا يمكن لحكم الأقلية وحكم الفرد المطلق أن تكون أساسًا للشفافية والانفتاح. ولكن، في الوقت ذاته هناك مساحة حيادية، لم يستغلها أحد، يمكن للحكام من خلالها ممارسة نطاق واسع من السلطات والإبداع.
ملكية من دون أنياب
إذاً، إلى أين نتجه من هنا؟ كيفية ممارسة الرئيس لسلطاته، وتأكيد فرضيات التاريخ، وتشكيل طبيعة الحوار العالمي، تعد قضايا مطروحة للحوار في ظل تقلص السلطات الامبريالية اليوم. وتؤكد الشواهد أن الرئاسة الامبريالية في طريقها للإضمحلال. إلا أن ليست جميعها كذلك، ويرجع ذلك إلى سبب خاص بسلطات الرئيس المعاصر اليوم الذي يتقلد منصب الرئيس في أي شكل من أشكال الديموقراطية.
فأي رئيس مهما كانت النسبة التي فاز بها في انتخابات حرة ونزيهة، يصل لمنصبه ومعه قدر كبير من النية الطيبة. دعنا نستخدم مثالاً توضيحياً لذلك، لنتخيل برميلاً كبيراً مملوءاً إلى حافته بالمياه العذبة التي تمثل السلطة والنفوذ والتأثير. إلى جانب هذا البرميل هناك مغرفة. مع كل مبادرة، أو أزمة، أو فرصة حقيقية أو متوقعة، يضع الرئيس المغرفة في البرميل، ويسحب كمية بسيطة، أو يملئ المغرفة عن آخرها. في بعض المواقف، قد يعتقد الرئيس أن الأمر يحتاج لأكثر من مغرفة ممتلئة، فيقوم بإمالة البرميل نفسه لتفيض كميات من المياه. في كثير من الحالات، قد يعمد الرئيس المبتدئ الذي يرغب في إحراز نصر سريع إلى أن يغرف كثيرًا من هذا البرميل أو يغرف بعمق كبير. وعلى هذا النحو فإن درجة تروي الرئيس في استخدام هذا المخزون هي التي تحدد بشكل مباشر طبيعة ومسار سلطاته ونفوذه. إلا أنه ثمة عامل ثابت دائمًا، فبمجرد انتهاء مخزون البرميل لا يمكن إعادة ملئه سوى بالعودة إلى صندوق الانتخابات للحصول على مدة جديدة إذا نص الدستور على ذلك. في أوقات الأزمات الشديدة مثل الحربين العالميتين في القرن الماضي، وأزمة الصواريخ الكوبية وأحداث 11 سبتمبر وحرب أكتوبر، يتم وقف العمل بهذا النموذج ويتم ملئ البرميل حسب الضرورة لتمكين القائد بجميع سلطات الرئاسة الإمبريالية القديمة.
قد تكون الأنماط القديمة من القيادة مازالت موجودة ولو في صورة الأنظمة التي تمثلها. ولم يحدث على مدار التاريخ أن عاش هذا العدد الكبير من الناس في ظل أشكال من الحكومات يمكن اعتبارها أنها تمثل رغباتهم وتعمل بما يتماشى مع آمالهم وأحلامهم في حياة غنية وذات معنى. وفي الوقت ذاته لم يعد الرؤساء الإمبرياليون قادرين على إخضاع نصف أوروبا لديكتاتور شيوعي بجرة قلم مثلما فعل روزفلت في مؤتمر يالطا، أو استعباد مناطق شاسعة كما فعلت القوى الغربية في بداية القرن العشرين. قد تؤدي القيود التي فرضت اليوم على الرئاسة الإمبريالية إلى إنتاج تحوّلات أحادية وأقل تأثيرًا، إلا أن الأمر يعتمد علينا في الاختيار الحكيم لمن يسمح له بالإمساك بالمغرفة ليغترف بها من وعاء السلطة والتأثير.
* ديفيد أنديلمان، رئيس تحرير مجلة “وورلد بوليسي جورنال”
(الصورة من موقع مجلة وورلد بوليسي جورنال نقلاً عن اسوشيتدبرس /ريا-نوفوستي، وأليكسي دروزيني)