محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت
حتى لا يسارع البعض بعد قراءة العنوان بإصدار الأحكام الجاهزة بالتصنيف المسبق، أطلب منهم التريث حتى قراءة المقال كاملاً، ثم بعد ذلك ليحكم أي منهم بما يريد، نتيجة خبرته وموقفه من القضية برمتها. أعرف أن الحديث عن «السنة والشيعة» في فضائنا العربي السياسي والثقافي اليوم حديث غير مرحب به في العلن، كما أعرف أن التصدي لنقاش الصدع في العلاقة «السنية – الشيعية» يسارع البعض إلى تصنيفه بـ«الطائفي»، فهو أعمق من الصدع السياسي أو الفكري، الذي يمكن الحديث عنه بسهولة نسبية. ولكن الأمر متداول بكثرة في السر، وحديث السر أو الحجرات المغلقة يكثر فيه الخروج عن الموضوعية باتجاه العزل والتشهير. لهذه الأسباب السابقة وغيرها أرى أن الحديث العلني في الموضوع فيه على وجه ما صحة وشجاعة أيضًا، فالمرض الطائفي لن نبرأ منه قبل أن نعترف بوجوده، ولن نستطيع أن نفهم الإشكال المميت إلا من خلال التشخيص العلني. مهمة الكاتب ليست مهمة السياسي، فالكاتب مطالب بأن يفكك الخطاب الفكري والآيديولوجي الذي يغرق شعبه بالدم، تمهيدًا لردم بؤرة الدم المتجددة، وهو أمر تناوله بشجاعة عدد من الكتّاب الغربيين إبان الصدع الضخم في القرن السادس عشر الميلادي، الذي كلف ما بين 8 إلى 12 مليونًا من البشر، إبان حرب الثلاثين عامًا وما بعدها بين البروتستانت والكاثوليك، هؤلاء الكتّاب تركوا لنا صورة ذلك العنف الدموي وبينوا عبثيته، ورسموا طريق الخروج منه، على الرغم من صد مجتمعاتهم لنشاطهم ذاك، فإن نتيجة جهدهم تقديم خدمة لتاريخ الإنسانية.
مقدمة ليست تبريرية ولكنها توضيحية، فالقول الساري في منطقتنا منذ فترة إن هناك «مظلومية واقعة على الشيعة»، قد يكون ذلك صحيحًا في فترة زمنية تجسد فيها حكم الفرد في بعض دولنا العربية، مقرونًا بآيديولوجيا فاقعة من التمييز لفئة على أخرى، وربما كانت تلك المظلومية على الجميع، ولكن الشيعة في المجتمعات العربية التعددية تحملوا العبء الأكثر منها. منذ فترة أو على الأقل في ربع القرن الماضي بدأ شيء جديد يظهر، هو انقلاب المظلومية إلى مظلومية السنّة، وهي ليست كالمظلوميات التي عرفناها من قبل، كما في العراق مثلا، حين سرى القول الشائع: «لنا الحكم ولكم اللطم»، اللطم الشيعي وقتها كان من جانب واحد، هو تحكم أهل السلطة في الآخرين. أما مظلومية السنّة فهي أكثر غورًا ومضاضة، هي مظلومية من عدة جهات؛ من المتشددين السنّة والمتشددين الشيعة، هي ما يمكن أن يوصف بمظلومية مضاعفة تقع على الاعتدال السني. أعرف أن البعض يطالبني بأن أعطي أمثلة، ولديّ على الأقل ثلاثة أمثلة، هي في واقعها تدلّ دلالة واضحة على ما أذهب إليه.
المثال الأول هو حالة أحمد الأسير في لبنان، فالمحضر الذي تسرب حول التحقيق معه لافت للنظر، فيه إشارات لا تخطئها العين إلى حال أهل السنّة في لبنان. من الإشارات أن الأسير كانت له أحداث مفصلية في حياته هي التي شكلت مرجعيته؛ الأولى اغتيال الشهيد رفيق الحريري في عام 2005، والثانية هي اندلاع ثورة الشعب السوري والتدخلات (اللبنانية – حزب الله) فيها؛ وجد أن فئة من الطائفة الأخرى قد تجاوزت كل المحرمات بقتل رجل دولة سني، وإكمال ذلك بالاشتراك في قتل آخرين من الشعب السوري، واللافت أن الأسير سار على قرار حزب الله؛ أقام له «مربعًا أمنيًا» في صيدا! أي مكان محظور الدخول إليه من السلطة اللبنانية الرسمية! كما أقام له على شاكلة حزب الله (مجلس شورى)، وحصل على بعض الأسلحة، هو في الحقيقة عكس صورة طبق الأصل لما يفعله حزب الله.
إلا أن الاختلاف، ولو كان الأسير سنيًا، ورغم أن ما أثاره هو الاعتداء على السنّة، أن معظم سنّة لبنان ضد ما قام به، كما أن الدولة اللبنانية سمح لها تسامح سنة لبنان بأن تقبض على الأسير وتطيح بمربعه الأمني ومجلس شوراه! إلا أن المربع الآخر في الضاحية (مربع حزب الله) لا يمكن المساس به من قبل السلطة اللبنانية، كما أنها لا تمتلك القدرة على منع مواطنيها التابعين لحزب الله من الاشتراك في حرب ضد السنة في سوريا، أو حتى تجريم مجلس الشورى، الذي هو دولة داخل دولة!
يهمني الإشارة هنا إلى مظلومية أهل لبنان السنة سكان المدن المتسامح أغلبهم الذين لم يدخلوا حربا أهلية، على كثرتها في لبنان، يتلقون المظلومية مضاعفة من قبل شريحة تساكنهم وتقتل رجالاتهم، ومن قبل شريحة أصغر من نسيجهم نفسه لا يوافقون على أعمالهم، كما في ظاهرة الأسير والجماعة الصغيرة التي التفّت حوله. أما مظلومية سنّة العراق فهي أيضًا تواجه متغيرين؛ فهي مضطهدة من قبل السلطة العراقية الجديدة التي تعتبر صدام حسين منها، فهي تتحمل كل أوزار الحكم السابق، كما أنها تقع في فك جحافل «داعش»، هي بين المطرقة التي تسمى الحشد الشعبي، والسندان الذي يسمى «داعش» وإخوته، مرة أخرى المظلومية مضاعفة. سنّة سوريا أمامهم خيارات أخرى؛ إما أن يسحقهم النظام ببراميله المتفجرة، أو يقضوا برصاص منتسبي حزب الله أو منتسبي عصائب الحق أو «الخبراء الإيرانيين»، أو يُطارَدوا من جماعات «داعش» ومناصريها، طبعا أمامهم فرص أكثر نسبيًا؛ فهم إما أن يغرقوا في البحر المتوسط، أو يُطاردوا في الغابات الموحشة لدول شرق أوروبا، وراءهم الكلاب وأمامهم الجوع!
الوسط السني المعتدل يتآكل أمام دول باطشة وشهية فارسية إقليمية ترغب في التمدد على حساب الآخرين، وخصوصًا الجيران، ويصبح جسم هذا الوسط منهكًا وقابلاً لكل الأمراض السياسية، ما زال صلبه يقاوم الوقوع في شرور الطائفية من جهة، والتشدد من جهة أخرى، ولكن هذا الصلب يُعرض يوميًا لفعل المظلومية بقوة السلاح من الجهتين.
بعد هذا التشريح للمشهد الذي يوصف بمظلومية الاعتدال السني ووقوعه بين تشددين، فإن الأصل في الصراع، كما كان في المسيحية بالقرن السادس عشر هو سياسي بامتياز، فمن جهة سياسي لأن شعوبًا بأكملها ترغب في الحرية التي تمظهرت في عدد من القيم في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، تقوم على العدل والمساواة والحكم المدني، بعيدًا عن توريث الجمهوريات أو انتظار شخص ما في آخر الزمان يقيم العدل، ومن جهة سياسية أخرى أنه لم يعد مقبولاً أن تتحكم فئة صغيرة من المجتمع في مقدرات الشرائح الأخرى الأوسع، كما تفعل شريحة صغيرة من «العلويين» أو بعضهم في سوريا، أو حزب الله في لبنان أو حزب الدعوة في العراق! الصدع السياسي الذي نراه أمامنا اليوم في معظم خريطة الشرق الأوسط هو صدع بين من يرغب ويأمل في دولة حديثة مدنية وعادلة يتساوى فيها المواطنون، ومن يتوسل الطائفة «المسلحة» لإخضاع بقية مكونات المجتمع لإرادته، وقهر طموحه في الحرية، ودليلي العقلي الأكثر وضوحا أن «المذهبية» لا تفرق بين الناس؛ فكيف عاشوا كل هذا الزمن الطويل دون اقتتال؟! ما يفرق بين الناس هو المصالح المعجونة بالسياسة، خصوصًا إن كانت لدولة تريد الهيمنة وتستخدم البعض من البسطاء أو الانتهازيين لتحقيق ذلك! هذا هو التشخيص الأكثر قربًا إلى الحقيقة لما نشاهد على مجمل الساحة، الذي يعاني منه الاعتدال السني مرتين؛ مرة من داخله، وأخرى من خارجه!
آخر الكلام:
المرض الطائفي يظهر علنًا على شاشة الوحش السياسي المسمى بـ«وسائل الاتصال الحديثة».. فمن خلال أسماء مستعارة وبكلمات مستهجنة تستعر حرب للكراهية غير مسبوقة بين طوائف المسلمين!
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط