محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت
ربما أكثر الكلمات والمفاهيم التي ترددت في السنوات الأخيرة هي كلمة أو مفهوم الإرهاب، وما زال البعض إما يقف أمام هذه الكلمة/ المفهوم حائراً ومشوشاً، أو مستفيداً من غموضها. قبل أشهر صدرت دراسة علمية من مركز الدراسات الدينية والجيو سياسية في المملكة المتحدة (بريطانيا) تحت عنوان «علامات في طريق القتال، ما تفصح عنه حياة مائة جهادي عن حركة عالمية» مع ملف شخصي مفصل لبعض القادة من «الجهاديين»، وترجمت هذه الدراسة إلى العربية من مركز مرصد التابع لمكتبة الإسكندرية ونشرت هذا العام، وهي دراسة تعرضت بعمق لمسيرة حياة وأفكار مائة شخصية من قيادات الإرهاب، من بن لادن إلى البغدادي، وتم اختيارهم بناء على مكانتهم في التنظيمات المختلفة، ووضعت الدراسة أمامنا بطريقة علمية واضحة تفاصيل هيكلية هذه الآيديولوجيا والرجال الذين حملوها، وجعلوا من عالم كامل يتكون أكثر من خمسين دولة، بعضها دول عظمى، تطارد هذا التنظيم أو التنظيمات المتفرعة منه، وتعجز في كثير من الأوقات عن استئصاله، حيث تشكل «حرب الإرهاب» معركة دولية اليوم تفيض بنتائجها على البشرية وتشل الاقتصاد الدولي وتثير التوترات بين دول كثيرة، وما زالت الحرب على الإرهاب هي الشغل الشاغل للدول والمنظمات العالمية. تتتبع الدراسة كيف اتخذ المقاتلون البارزون في هذه الحركات من شبه العسكريين والقادة الفكريين طريقهم ورحلتهم نحو «الجهاد الأعمى» المتسم بالعنف المطلق. بعض ما وصلت الدراسة إليه من نتائج كان حولنا معروفاً، أي كان بعضنا قد تعرف عليه بالحدس، ونتائج أخرى ظهرت دون أن يلتفت إليها أحد في السابق. الفكرة الأولى أنه لا يوجد «نموذج» لـ«الجهادي»، أي لا يمكن رسم صورة قاطعة ونهائية لمواصفات «الجهادي»، فهو قد يكون صديقك القريب، أو جارك، أو خريج السجون أو متعاطي مخدارت، إلا أنك لا تتبيّنه بشكل تلقائي، فهناك صور لـ«الجهادي» متعددة. أما المشترك، وهنا أمر مهم تقول الدراسة إن «الجهادي» يفضل أن يكنى «أبو حذيفة» أو «أبو مصعب» أو أي اسم تاريخي، تضيف إليه المكانة والمهابة التي في الغالب يفتقدها في بيئته المحلية، كما يتغذى العمل «الجهادي» في الغالب على «مجاميع الإسلام الحركي»، أي لا يوجد في سيرة المائة التي هي عينة الدراسة من ذهب من البيت أو المدرسة أو الشارع إلى «الفكر والتنظيم الجهادي» مباشرة، خمسون في المائة منهم، كما تقول الدراسة مروا أولاً «بمرحلة تنظيمية ما» في الغالب لا عنفية، في تلك المرحلة تظهر علامات «الجهادي» لرفقائه في التنظيم، إلا أنهم إما لا يتوقفون عندها أو يشجعونها على أنها «ظاهرة تدين» محببة، وإن ذلك الشاب قد «دخلت نفسه الهداية!» وهنا تأتي مسؤولية «الجماعات الحركية» لفرز ذلك الجهاد العنفي، الذي يتبرأ منه البعض، حيث لا يخلو من المسؤولية المباشرة! للإجابة عن سؤال لماذا يكون «الإسلام الحركي» طريقاً لـ«الجهادي»، هنا يأتي المنهج المتبع لدى الإسلام الحركي، فيدرب الشاب أو الرجل (الذي هداه الله) حسب التعبير الحركي في الجماعات المنظمة، على «قبول أفكار قطعية» في الفكر والحياة والمعاملة، ومفارقة أفكار وحتى برامج أو أشخاص أو كتابات، يعتبرها المنهج «الحركي» معادية أو مضللة، فيصير ذلك الشخص (ذا بعد واحد) وحبيس توجه أحادي، لا يلتفت إلى العقل في تحليل الظواهر أو الأحداث حوله، بل تصبح لديه الأمة (الآخرون) على خطأ بيّن، وما تعتقده جماعته أو يقوله (مرشدها) هو الحقيقة الكاملة، فينزع إلى «التشدد» الذي يقوده تلقائياً إلى «جماعة الجهاد»، كما تطور مفهومها في الأربعة أو الخمسة عقود الماضية، التي ينظر معتنقوها للمجتمع ومشكلاته المعقدة المحلية والدولية، من زاوية ضيقة لا تتغير، فكل ظاهرة عندهم أنها وجدت وتطورت بسبب «عصيان» من البشر! وعليهم إرجاع هؤلاء «العصاة» بالقوة إلى «طريق الصواب»! وعندما حللت الدراسة الخلفية العلمية للمائة «جهادي» المدروسة، وجدت أن معظم «المتعلمين منهم» من خريجي المدارس والتعليم «العلمي»، إما من خريجي العلوم أو الهندسة أو الرياضيات أو الطب، فدارسو التخصصات في العلوم الاجتماعية منهم قليلون! ذلك أن حرمان دارسي تلك المواد «العلمية» في الجامعات والمدارس العربية من العلوم الاجتماعية والفلسفة والتفكير العقلاني، والتي هي جسر لفهم الطالب (النسبية في التفكير) في الظواهر الاجتماعية، فيلجأ إلى منهج «الجماعة الحركية» القطعي، التي توصيه بقراءة نوع محدد من كتب التراث، في الغالب كتبت في عصور الانحطاط، وبعضها ملخصات لأفكار عامة متطرفة نشأت في بيئة مختلفة وعصر مختلف، يراد لذلك الشخص أن يحفظها عن ظهر قلب (كما يفعل في المناهج التي درسها) وإن كل شيء خارجها هو «الضلال» الكامل. واللافت أن الدراسة وجدت أن نحو «نصف النخبة الجهادية المدروسة» (القيادات) قدموا من بلاد أجنبية شرقية كانت أو غربية، وأن نقطة الجذب لهم هي مناطق الصراعات في سوريا أو العراق أو اليمن أو أفغانستان في السابق، وأصبحوا «قياديين» في تياراتهم، بسبب حماسهم الزائد في الفعل «الجهادي» وعنفهم حتى على مخالفيهم في التنظيم نفسه، وهو مؤشر قد ينم على أن الناطق بغير العربية يفهم النصوص على أنها صماء، أو أنه لُقن وهو في مهجره أفكاراً صلبة معادية للآخر. كما وجدت الدراسة أن «جهاديي» الشرق الأوسط ومنطقة الصحراء الكبرى وما دونها من بلاد محيطة بالصحراء، هي شبكات منفصلة عن بعضها، كما أن الحماس لبعض «الذئاب المنفردة» في مدن أوروبا، قد يكون منطلقاً من إما اتصال عن بعد (الإلكتروني) بمتشددين، أو اتصال «عاطفي» تم أيضاً عن بعد، وتسارع الجهة «الجهادية» على نسب ما يقوم به هذا البعض من الذئاب إلى حصيلتها التدميرية للارتقاء بالروح المعنوية، إن صح التعبير، لجهادييها. وبينت الدراسة أن الاتصال والتجنيد لهذه الشبكات إما عن طريق العلاقات المباشرة أو في السجون أو من خلال شبكات التواصل الاجتماعية الإلكترونية في العقود الأخيرة، قبل سنوات، أي في الجيل الأول كانت عن طريق «المجلات والمنشورات»، كما جاء في مذكرات نسيب عبد الله عزام، الذي قرأ إعلاناً وهو في الجزائر في وسط السبعينات في مجلة كويتية (المجتمع) التي كان يسعى إليها من قريته البعيدة إلى المدينة!
بالطبع الدراسة اقتصرت على عينة، ولكنها استخدمت مجموعة واسعة من المصادر وعكفت على تحليلها لاستخراج الجوهري والعام للظاهرة المدروسة. كما أنها لم تكتفِ بالعرض والتشخيص، بل قدمت بعض الحلول، وهي على سبيل المثال تحفيز الطلاب في مستويات مختلفة على حضور دورات لبناء المهارات اللازمة للتحليل النقدي للنصوص التي تهتم بالقضايا الاجتماعية، وأن مظاهر التشدد في المؤسسات خاصة التي يجتمع فيها عدد كبير من الناس، يجب أن تواجه بالمناقشة وألا تخشى وسائل الإعلام من طرح الأفكار المتشددة واستضافة حامليها لمناقشتهم نقاشاً عقلياً، كما توفير التثقيف العقلاني للمسجونين، حيث تبين أن 65 في المائة من العينة المدروسة قد قضوا وقتاً ما في سجون بلادهم أو خارجها!
بالطبع ما تقدم هو ملخص كثيف لأفكار تلك الدراسة، إلا أن المشروع الحقيقي أن توضع تلك الدراسة وأمثالها على مشرحة النقاش العام، لأن الوباء قد انتشر ونتائجه المباشرة وغير المباشرة، كما نشهد، كارثية!
آخر الكلام:
جزء من «الجهاديين» العراقيين والسورين الذين انخرطوا في تنظيمات «جهادية» عُنفية، وساعدوا في حرف الثورة الشعبية، كانوا في وقت ما في سجون الأنظمة، وأطلق سراحهم!
المصدر: الشرق الأوسط