كاتب وصحفي سعودي
تبرز في أميركا اللاتينية نماذج لشخصيات «كاريزمية» تستحق تأمل سيرها، بعد تحقيقها نجاحات شعبية واسعة عبر الانحياز للمواطن، وتبني القيم الديموقراطية، وتعزيز المشاركة الشعبية، ومحاربة الفساد والمحسوبيات، والاندماج مع الحركات الوطنية الأخرى.
قبل أيام قليلة قرأت مقالة رائعة، للكاتب العراقي كاظم فنجان الحمامي بعنوان: «رئيس الفقراء يحكم الأورغواي»، عدّد فيها خصال هذا الرئيس وتواضعه وزهده وبساطته وتقشفه وقربه من الناس. فيها: وُلد خوسيه موخيكا (77 عاماً)، فقيراً معدماً، ونشأ وترعرع في القرى البائسة، حتى صار أميراً للصعاليك والمشردين، وظل يقف مع الفقراء والمعوزين ويناضل ويقدم التضحيات من أجلهم.
عارضَ ظلمَ السلطات الأرستقراطية «المستبدة» في بلاده، وبقي في السجن في زنزانة انفرادية أكثر من عشرة أعوام. وفي عام 2010 أصبح موخيكا رئيساً دستورياً لحكومة الأورغواي، واعتُبر أول رئيس يقف في شرفات الرئاسة ليؤدي القسم الدستوري بملابسه الحَقْلية المتواضعة.
رفض خوسيه مغادرة منزله المتواضع، والتخلي عن سيارته القديمة جداً، واكتفى من الراتب الرئاسي بمبلغ 1250 دولاراً، وتنازل عن 90 في المئة منه، لمساعدة الفقراء والمحتاجين والمتضررين.
اعتاد شعبه أن يشاهده يومياً، وهو يقود سيارته بلا موكب أو دراجات أو عربات مصفحة أو إغلاق للطرقات. وليت الزعماء العرب يعلمون أيضاً أن هذا الرئيس لا يملك قصوراً ولا عقارات ولا أرصدة في المصارف ويحارب المتطفلين والانتهازيين.
اليوم، تتقدم الأورغواي، بفضل سياساته المنحازة للإنسان، وتشدده في تطبيقات العدل والمعاملة الإنسانية والشفافية، حتى تقلصت معدلات الفقر في بلاده، في مقابل ارتفاع معدلات التنمية والاقتصاد والتعليم.
أيضاً، لا بد من استذكار النجاح الكبير لرئيس البرازيل السابق لولا دا سيلفيا، الذي انتهت فترة ولايته قبل عامين، وبكاه البرازيليون على طول البلاد وعرضها، وهو الرئيس الملقب بـ «اليتيم» الذي كان يذرف الدموع مع كل نجاح يتحقّق لبلاده، حتى بلغت شعبيته 80 في المئة، وليس على طريقة الحكام العرب سابقاً 99.99 في المئة، حتى انتفضت الشعوب ضدهم وطردتهم و«شرشحتهم»، ليرحلوا إلى المنافي، أو يودعوا في السجون، أو يسحبوا بلحاهم من وسط الحفر. ودا سيلفيا (يتيم الأب) قدم إلى كرسي الرئاسة، بعد أن عمل ماسح أحذية في ضواحي ساوباولو، ثم صبياً في محطة بنزين، وميكانيكي سيارات، وبائع خضار. وكانت عائلته تسكن في غرفة واحدة خلف نادٍ ليلي، تنبعث منه الموسيقى الصاخبة وشتائم السكارى، غير أن لولا «العصامي» يقول إن «والدته علّمته كيف يمشي مرفوع الرأس، وكيف يحترم نفسه ليحترمه الآخرون».
أجهش دا سيلفيا بالبكاء في آخر خطاب له، بعد خروج الناس زرافات ووحداناً، لتحيته على تواضعه وأفعاله وسياساته التي جعلت من بلاده خلال فترة رئاسته ثامن أكبر قوة اقتصادية في العالم.
كما أن في أفريقيا، يبرز اسم رئيسة ليبيريا إيلين سيرليف الموصوفة بـ «المرأة الحديدية»، لمواقفها القوية وسياساتها الواثقة، وآخرها وقف 46 مسؤولاً حكومياً عن العمل بينهم (ابنها)، بعد رفضهم كشف ممتلكاتهم للجنة مكافحة الفساد في البلاد. لم تُولد سيرليف وفي فمها ملعقة من ذهب، ولم تصل إلى كرسي الرئاسة من بوابة ناعمة، بل مرّت بمحطات صعبة، من بينها النجاة من مذابح الحرب الأهلية في بلادها، والسجن والاعتقال التعسفي، لكنها امرأة عاشت همّ الوطن وغاباته وعاداته ونجحت. وفي التقويم العام للولاية الرئاسية الأولى لسيرليف، تشير التقارير إلى أنها شهدت محاولات جادة لتصحيح الاقتصاد، ومكافحة الفساد، وأنشأت لجنة للمصالحة، وسعت لإحلال السلام، وخفض الديون، وتعزيز وضع النساء، وإحداث إصلاحات مؤسسية ما زالت تثير إعجاب المجتمع الدولي. ومن يرد القراءة عنها فليقرأ كتابها «هذه الطفلة ستكون عظيمة الشأن… مذكرات حياة حافلة لأول رئيسة أفريقية» (مقالة سابقة: المرأة الحديدية في القارة السمراء بتاريخ 27/8/2012).
من يشاهد ما يرتكبه نظام بشار الأسد من مجازر ومذابح ضد الشعب السوري، وقبله معمر القذافي في ليبيا، وقبلهما آخرون وبعدهما سيكون آخرون، يتبيّن أن الرؤساء العرب لا يتعلمون من الدروس، ولا يكترثون بما يقترفون من قتل وظلم وفساد واستبداد، ويتركز جلّ همهم واهتمامهم على التشبث بالكرسي ولو أبادوا الشعب عن بكرة أبيه.
هل يمكن أن يسبر قادة الشعوب العربية سير الأورغواني الفقير و«ابن البرازيل – اليتيم»، وصلابة ابنة ليبيريا ودورهم الجاد في الإصلاح، وتعزيزهم لدور المواطن والانحياز له والاقتراب منه، وسعيهم لتحقيق مطالب شعوبهم ومنحهم حقوقهم؟ أشك في ذلك!
المصدر: صحيفة الحياة