كاتب و إعلامي سعودي - رئيس تحرير صحيفة "الشرق الأوسط"
في كتابه «رحلة إلى بداية» (1969)، يقول الكاتب الإنجليزي كولن ويلسن ـ صاحب المؤلف الشهير «اللامنتمي» (1956) – واصفا التعاطي الأميركي مع مسألة الشهرة: «لا يوجد بلد أكثر حرصا على الاحتفاء بالمشاهير، ولا أكثر سرورا بأفولهم من أميركا». لعل هذا الوصف ينطبق على الجنرال الأميركي ديفيد بترايوس الذي استقال مؤخرا من منصبه على رأس وكالة المخابرات الأميركية إثر الكشف عن علاقة نسائية له خارج إطار الزواج. كان من الممكن أن تمر هذه المسألة من دون اكتراث من الجمهور لولا أن نجم القصة يعتبر حتى وقت قريب في مصاف الأبطال.
لا حاجة إلى سرد وقائع القصة، فهي منشورة باستفاضة في وسائل الإعلام. وسواء كنت تعتقد أن بترايوس يستحق ما جرى له نظير خيانته الزوجية، أو معترفا بسجله وإنجازاته كعسكري، فإن الجدل حول ما جرى سيستمر لبعض الوقت، وإذا ما ثبت أن بترايوس لم يرتكب خطأ أمنيا سوى هذه العلاقة التي كانت مدمرة، فإن السيناريو المرجح هو أن يطوي النسيان تلك الحادثة، ويكتفي المجتمع بألم الفضيحة ككفارة للبطل السابق، كما جرى لعشرات السياسيين الأميركيين من قبله، ممن تورطوا في فضائح أخلاقية من آل كيندي إلى كلينتون.
لعل المسألة المهمة هنا ليست الفضائح الأخلاقية وتداعياتها، بل صناعة البطل وتمجيده. لو كان بترايوس جنرالا عاديا غير معروف، لما كانت كل تلك الضجة، ولكن بما أنه ارتقى لمصاف الأبطال، فإن انكشاف خطئه الفردي ألقى بظلال الخيبة والخجل على أولئك الذين اعتبروه بطلا. ليس من العدل التقليل من إنجازات بترايوس، أو مواهبه الشخصية، ولكن من الضروري الانتباه إلى الدور الذي تلعبه بعض وسائل الإعلام – والآلة الحزبية – في الخروج بالشخصيات من مجالها الإنساني البسيط إلى مصاف الكائنات العليا. هناك غواية رهيبة تنال شخصيات مثل بترايوس يقوم بها المجتمع، وتجبر أي شخص جاد أو ناجح على التحول إلى شخصية عامة، وعلى حمل ألقاب وأوصاف – مبالغ فيها أحيانا – لإرضاء الجمهور المتعطش للرموز البطولية.
حاول كولن ولسن أن يفصل بين الصيت والشهرة، فأشار إلى أن هناك خيطا رفيعا يفصل ما بين الصيت، الذي غالبا ما يكون مبنيا على المواهب الشخصية والإنجازات، وما بين الشهرة التي ترتبط بتحول المرء من شخصية غير معروفة إلى بؤرة اهتمام ومتابعة من الجمهور، سواء لأسباب نبيلة أو فضائحية.
لعل بترايوس الذي انتقل من اللباس العسكري إلى المدني قد وقع في هذا المأزق من دون إدراك، وفي هذا يقول مسؤول أميركي قريب منه: «على مدار الأعوام التي عرفته فيها، كان يركز بصورة كبيرة على صوره الشخصية» (جريدة «واشنطن بوست»، 12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012).
بيد أن هذه الحادثة هي مناسبة للمقارنة ما بين السلوك المجتمعي في أميركا، ومثيله في بلدان المنطقة. ترى لو كان بترايوس عربيا أو كرديا، أو فارسيا، هل كان سيحظى بالتعاطف، أو سيلقى جزاء يفوق ما اقترفه من خطأ؟
هنا يمكننا الإشارة إلى ملاحظتين: الأولى، أن مجتمعا مثل أميركا يمكن المبالغة فيه بصناعة الرمز البطل، ولكن المجتمع ذاته يملك الآليات اللازمة لتصحيح الأخطاء والمشكلات، فسوء استخدام السلطة، أو اقتراف ذنب لا يتوافق مع المعيار الأخلاقي للمناصب العامة يحتم على المخطئين الاستقالة، والابتعاد بصمت. ثانيا، يكتفي المجتمع بالخيبة الأخلاقية، ولكنه يفتح المجال أمام المخطئين بالتكفير عن أخطائهم (to redeem themselves).
في منطقة الشرق الأوسط للأسف، فإن المبالغة في صناعة الأبطال المزيفين والوهميين تتجاوز الحد الطبيعي، حيث لا أحد يعتذر عن أخطائه، فضلا عن أن الشخوص يتم رفع مستواهم إلى مراتب لا يطالها الحديث، فضلا عن النقد. الأمر ليس محصورا في الرؤساء والزعماء، بل إن رجالات أحزاب متطرفة يتم ترميزهم، ووصفهم بالأبطال وإضفاء هالة سحرية حولهم، على الرغم من تبنيهم مشاريع عنيفة ودموية.
عقب هزيمة 1967، ظهر الرئيس الراحل عبد الناصر بشكل مسرحي، ليعرض التخلي عن منصبه. وعلى أثر هذا خرجت أفواج بشرية بشكل عاطفي مطالبة الرئيس الذي تسببت سياساته بالهزيمة وخسارة الأرض لعدم الرحيل، وليتم التعامل معه بشكل بطولي في بعض الأوساط الاجتماعية حتى اليوم.
هناك رؤساء عرب وصولوا إلى مناصبهم عبر انقلابات عسكرية، ووجدوا في مجتمعاتهم القابلية للتمجيد المبالغ فيه. خذ مثلا صدام حسين في العراق، حافظ الأسد وابنه في سوريا، معمر القذافي وأولاده في ليبيا، وآخرون غيرهم.
في إيران كان آية الله الخميني يتهم الشاه بالتسلط والتكبر، ولكن بعد رحيل الأخير اتخذ الخميني لنفسه سلطات دينية ودنيوية وهالة لم تتوفر لأحد من معاصريه.
ليس هذا فحسب، فمجتمعات المنطقة لا تحتفي بالأبطال المزيفين فقط، ولكنها للأسف تتنكر للإنجازات إذا لم تتوافق مع أوهامها. لقد استعاد أنور السادات أرض سيناء، وتمكن من تحقيق معاهدة سلام جادة وشاقة، ولكن تم اغتياله جسديا ومعنويا. شخصية أخرى مثل الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة، حقق نهضة علمية وحضارية في بلده، ولكن تم التعاطي مع سيرته بطريقة لا تخلو من التشويه والتبخيس.
لا شك أن هناك شخصيات سياسية عربية مثل بترايوس، اختلط عملها الصالح بآخر باطل، ولكن الثقافة الأميركية التي تغفر للذين يكفرون عن خطاياهم ولا تتنكر لإنجازاتهم، تختلف كثيرا عن الثقافة السائدة في المنطقة، والتي تقدم الأوهام على الحقائق، وتغفر للمجرمين، ولا ترحم المخطئين.
لقد أقدم الرئيس صدام حسين على إشاعة الحروب وعرض بلده للحصار ومواطنيه للنفي، ورغم ذلك لا يزال هناك من يعتبره بطلا. أيضا، شخصية مثل السيد حسن نصر الله عرضت مواطنيها لحرب غير متكافئة، واتخذت من المواطنين العزل ستارا بشريا، بل ووقفت مؤخرا إلى جوار النظام السوري المتورط في جرائم حرب بحق مواطنيه، ومع ذلك ستجد من يعتبره بطلا.
لعل أبرز دليل على انعدام الاتزان في التعاطي مع الشخوص السياسية والدينية في المنطقة هو أنك لا تكاد تجد سيرة ذاتية منصفة لأي شخص، فرجالات المنطقة إما أبطال وإما أشرار. لا وجود لأشخاص مثل بترايوس، لهم أعمال نبيلة وخطايا في الوقت ذاته.