محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت
استخدم الجهاز الإيراني المفاوض في عدد من العواصم الأوروبية كل الحيل من أجل تحقيق هدفين؛ الأول، الوصول إلى اتفاق مع الدول الخمس المفاوضة، على اختلاف أهدافها الوطنية من المفاوضات، قبل انحسار الولاية الأوبامية، فأخرج كل ما في جعبته من جزرٍ وعُصي. والثاني، توجه لاسترضاء القوى المتشددة الداخلية، التي إما لأسباب سياسية أو خاصة، كانت ترغب في تعويق الفريق المفاوض. كان على رأس الاستخدام الاسترضائي، صورة المجموعة المفاوضة في فيينا، وهي تبكي بحرقة (قد تكون ظاهرية) في إحدى المناسبات الدينية التي مرت في العشرة أيام الأخيرة من شهر رمضان. وفي الأيام القليلة الحاسمة نفسها صعدت طهران من لهجتها وعلى لسان المرشد نفسه في الاستعداد لتصعيد الصراع، ربما من أجل دفع الاتفاق إلى نهايته.
نحن نعلم الآن أن المفاوضات الماراثونية تركزت على ملف واحد هو (القدرات النووية الإيرانية) ولم تتطرق إلى أي من الملفات الأخرى، وهي الأهم بالنسبة للجانب العربي، ومجملها التدخل السافر في الشؤون العربية من طرف إيران!
الآن، السؤال الأهم والأكثر جذرية: هل سوف تذهب إيران، بعد هذا الاتفاق، إلى طريق السلم والتصالح، والانخراط في المسيرة العالمية للحفاظ على الأمن والتعاون في الإقليم وفي العالم، والتخفيف من الضغوط الداخلية على المكونات الإيرانية لتصبح (مجتمعًا عاديًا ومسالمًا) منخرطًا في مسيرة الحضارة، كما تراهن بعض الأوساط في الإدارة الأميركية والأوروبية، وبالتالي حدوث شيء من الانفراج في المنطقة، أم أن الاتفاق سوف يجعل من يد إيران في المنطقة والعالم طليقة تسعى إلى تحقق أهدافها المعلنة ومجملها (تصدير الثورة) بكل ما تعنيه العبارة الفضفاضة من احتمالات، خصوصًا في الخاصرة العربية، حتى أصبح لها مكان لا يمكن تجاهل تأثيره؟
البعض يرى أن هذا الاتفاق (لن يصمد) بسبب عدم الثقة المتبادلة بين الجمهور السياسي في الطرفين، ويرى آخرون أن (صموده) سوف يسحب من النظام شعارات: «الموت لأميركا»، و«تدمير إسرائيل»؛ الأمر الذي سوف تفقد فيه (البروباغندا) الإيرانية جل جمهورها الخارجي!
من المبكر تحديد أي الطرق سوف تسلكه طهران، المحتمل في المدى القصير أنها سوف تخوض صراعًا داخليًا بين معسكرين؛ محافظ داخليًا وثوري خارجيًا، ومعسكر سئم من الأثمان الغالية التي دفعتها الشعوب الإيرانية من حريتها ورزقها في هذا الصراع الطويل، كلا الطريقين مكلف وربما دموي.
التكيف مع النظام الدولي، سوف يسحب ورقة مهمة من يد (التيار المتشدد) وهي ورقة مدغمة بالمصالح المادية والشعارات الثورية، لا يمكن التنازل عنها بسهولة، كما أن هذا الطريق سوف يفتح الباب لتيار معتدل واسع في إيران ضاق ذرعًا بالتشدد السياسي والديني والكلفة الاقتصادية العالية، الذي سوف يقود في النهاية إلى تغيير داخلي تدريجي وربما مفاجئ!
أما المسار الثاني، فهو أن تفترض القيادة الإيرانية، وتبيع ذلك الافتراض إلى الشعوب الإيرانية، إن ما حدث، هو نتيجة التشدد، وأخذ كل شيء من الغرب المستكبر، المال والاعتراف الكامل ليس بالوجود بل وأيضًا بالهيمنة، والسير في خطتي التسلح وتصدير الثورة.
بعد أن تنفض من المسرح كل مظاهر الاحتفال وعلامات الانتصار التي سوف ترفعها الأطراف المختلفة، وربما بعد جائزة نوبل للسلام لهذا الشخص أو ذاك من المشاركين في المفاوضات الماراثونية! سنتبين أي مسار سوف تسلكه طهران!
المهم في هذه المرحلة التي تتصف بالسيولة الشديدة، ألا يجلس الخليج على يديه، بانتظار وضُوح معالم الطريق، فأخذًا بالمعطيات القائمة، فإن المتابع يميل من قبل التحليل المنطقي، أن تعتبر إيران أن ما حدث هو نتيجة طبيعية للتشدد، وأن الطريق إلى الأمام الكثير من التشدد وتوسيع النفوذ في الخاصرة العربية إرضاءً للغلاة.
أي من الطرق المستقبلية التي يمكن أن تسلكه طهران، يفرض تفكيرًا خليجيًا مستجيبًا للمدركات الاستراتيجية التي يفرضها الاتفاق الإيراني – الغربي (في غياب الموقف العربي الشامل) من خلال النظر في احتمال التغير العميق للبيئة الاستراتيجية في المنطقة التي تحتم مجموعة من الخطوات، على رأسها أن التلكؤ من متخذ القرار الخليجي في المضي قدمًا لخلق منظومة خليجية أمنية وسياسية موحدة، تسعى إلى تكثيف للموارد المالية والبشرية، وتحويلها إلى قاعدة علمية وإنتاجية، بما فيها إنتاج الوسائل الدفاعية، هو إضاعة للفرص وتمرير خطير للوقت، فهذه المنظومة خليقة بأن تقدم قيمة مضافة للأمن في دول الخليج، على أي مسار سارت طهران؛ السلم، أو إلى (الشغب) على حد تعبير وزير الخارجية السعودي!
من الواضح في هذا المنعطف من التاريخ أن أمر الأمن في حوض الخليج، وإن كان مهمًا للعالم، إلا أن ذلك العالم إما مشغول بقضايا أهم أو غير مهتم على أي طرف ترسو الأمور في النهاية، ما دامت مصالحه العامة محفوظة، أو أن قدرته على الفعل محدودة. المثال: قرارات مجلس الأمن تجاه أحداث اليمن، فرغم صدورها بـ«الإجماع»، فإنها صدرت دون أسنان، فنحن أمام وضع يفترض الاهتمام الأقصى ببناء القوة الداخلية الخليجية، وما الحديث عن الأمن الوطني، الذي يروق لبعض الدوائر في الخليج الترويج له منفصلاً عن الأمن الجماعي الخليجي، إلا خداع نظر، ويعرض كل الوحدات فرادى إلى إما الاضمحلال أو السقوط في يد (التحكم عن بعد من طهران) من خلال الضغوط أو من خلال خلخلة النسيج الاجتماعي الداخلي المهيأ منذ سنوات، كما أن بروز الدور العسكري الإيراني وقواه الأخرى في مجاميع (ما دون الدولة)، كمثل الحوثيين في اليمن، ولكن ليس هم فقط! حقيقة ماثلة وتشكل الخطر الداهم على أمن الخليج، عدا الاستنزاف في الموارد، التي يمكن أن تتبعه طهران لزيادة التأزيم الداخلي. إن أضفنا إلى كل ذلك، تراجع الموارد (أسعار النفط)، فإننا بحاجة ماسة إلى دراسة مهددات الأمن الخليجي بشكل جدي وجماعي.
لقد مر علينا ردح من الزمن اتصف بخفوت المبادرة الخليجية وقراءة خاطئة لخريطة التوترات في المحيط العربي، والاستجابة ببطء لتحدياتها، أو النزوع إلى توافق غير محصن. فقط في السنوات الأخيرة وجدنا شيئًا من الخطوات الاستباقية الخليجية، كانت بدايتها في البحرين من خلال تفعيل الاتفاقات السابقة، وثانيًا وهو الأكثر وضوحًا في «عاصفة الحزم» التي ما زالت قائمة، خفوت المبادرات الخليجية الجدية في السابق، خلق فراغًا استفادت منه إيران للتمدد السياسي، وما الغضب الصارخ، وحتى غير المنطقي، الذي قابلت به طهران «عاصفة الحزم» في بدايتها، إلا مؤشر على ارتكانها على خفوت المبادرات الخليجية لفترة طويلة.
العمل السياسي كمثل ماء النهر يظل جاريًا ومتغيرًا، فالخليج بجانب المبادرات الاستباقية يحتاج أيضًا إلى بناء رأي عام متفهم ومناصر، كما يحتاج في مكان ما إلى تفعيل استحقاقات إدارية واجتماعية مناسبة للعصر، تستجيب للتحولات الحادثة في العالم بشكل واع، كما تستجيب للتحديات في المنطقة. إن الزخم الذي سوف تنتجه تفاعلات ما بعد الاتفاق الإيراني – الغربي سوف يُطلق ديناميات جديدة ومختلفة يجدر بنا في الخليج أن ندرس بعمق حوافزها وكوابحها على السواء.
آخر الكلام:
تبين من الاتفاق الإيراني – الغربي أن إيران قادرة على لعبة (غير صفرية) مع الخصوم، لماذا تصر على لعب لعبة صفرية مع جيرانها العرب؟
المصدر: الشرق الأوسط