“بين التبعية والاستقلال.. أقسام الدراسات العليا في الجامعات على مفترق طرق”

آراء

خاص لـ هات بوست:

     تشكل الدراسات العليا محورًا رئيساً في عمل الجامعات المعاصرة، فهي تمثل البيئة التي يُنتَج فيها البحث العلمي المتقدم وتُخرَّج منها الكفاءات البحثية والمهنية العليا. ومع ازدياد الضغوط على الموارد المالية والإدارية، تتجه بعض الجامعات نحو دمج أقسام الدراسات العليا ذات التخصصات المتقاربة بهدف تقليص النفقات أو توحيد الموارد أو الشك الظاهري بتقارب المناهج، وتعانق العلوم المختلفة. إلا أن هذا التوجه يحمل في طياته مخاطر علمية وتربوية تتطلب وقفة تأملية نقدية، خصوصًا حين يُدمج بين تخصصات مختلفة من حيث المنهج والمجال المعرفي.

وتشهد الدراسات العليا تطوراً ملحوظاً من حيث التخصص والتعمق، وأصبحت الحاجة إلى التخصص الدقيق من السمات الأساسية للبحث العلمي المعاصر. إذ يؤدي التخصص الدقيق إلى تعزيز الأصالة العلمية، والتمكن من تحليل المشكلات بصورة علمية واضحة، ويسهم في تطوير أدوات التحليل والمنهجيات الملائمة في المجال البحثي المتخصص. كما يسمح له بتكوين قاعدة معرفية صلبة ومحدثة، مما يرفع من جودة الأطروحة أو المشروع البحثي، ويقصد بالتخصص الدقيق، التركيز العميق في مجال فرعي محدد داخل تخصص أوسع، يتيح للباحث الإلمام الشامل بجوانبه النظرية والتطبيقية. ورغم الجاذبية الظاهرة للجمع بين أكثر من تخصص، إلا أن هذا النهج يحمل العديد من الإشكاليات المنهجية والعملية لعل من أهمها ضعف العمق في التحليل، وتشتت المعالجة المنهجية، والاتجاه السطحي في دراسة المظاهر البينية البعيدة عن التخصص العلمي للباحث.

ومن المفيد-هنا- أن أشير إلى بعض مشكلات الدمج، والتأكيد على أن الاستقلالية العلمية تقتضي تعزيز جودة البحث العلمي، وزيادة المرونة الأكاديمية، ومواكبة النماذج العالمية الناجحة مع تجنب التجزئة المؤسسية في التخصصات العلمية، ناهيك أن الاستقلالية العلمية تؤدي إلى عمق الدراسات العليا وتخصصها، وتشرع باباً واسعاً للمفاهيم العلمية والإدراكية المختلفة بعيداً عن السطحية في التناول، أو الجزئية في المعالجة، أو النظرة القاصرة في التصور العلمي المحكم.

أولاً: من المدركات الواقعية والعلمية أن كل حقل معرفي يتمتع باستقلال منهجي ونظري يجعل له خصوصيته في تناول الموضوعات. فيختلف تحليل الظواهر في كل مجال علمي عن المجال الآخر، سواء من حيث الأدوات البحثية أم الخلفيات الفلسفية. ودمج هذه التخصصات تحت قسم واحد يهدد هذا التميز، ويُنتج برامج أكاديمية هجينة تفقد التركيز والعمق المطلوب.

ثانياً: التأثير على جودة المخرجات البحثية، فالبيئة البحثية المتخصصة تُعد شرطًا أساسيًا للإنتاج العلمي المتميز. وعندما يعمل الباحث ضمن قسم متخصص تخصصاً علمياً دقيقاً فإنه يكون أكثر قدرة على تطوير مشروع بحثي رصين، كما تتاح له فرص التفاعل مع الباحثين الذين يمتلكون خلفيات مشابهة، وكذا دعم المؤتمرات والندوات العلمية المتخصصة. أما حين الدمج فيتشتت الاهتمام، ويصعب توفير الإشراف العلمي الملائم، مما يؤثر سلبًا على جودة الرسائل والبحوث.

ثالثًا: تُبنى الهوية الأكاديمية للبرنامج العلمي المتخصص من خلال مقررات واضحة، وأهداف دقيقة، ومخرجات معرفية ومهارية محددة. وفي حال دمج التخصصات، حتى لو كانت متقاربة فهذا يعني أن تتحول الهوية فتصبح ضبابية غير واضحة الحدود والمعالم والإجراءات، وربما يجد الطالب نفسه يدرس مقررات لا صلة لها مباشرة بتخصصه. كما أن سوق العمل قد يجد صعوبة في تقييم خريجي هذه البرامج الهجينة، مما يؤثر على فرص توظيفهم ومكانتهم الأكاديمية، وطرائق تصنيفهم تصنيفاً واضحاً ودقيقاً بالاعتماد على مخرجات البرامج وغاياتها التخصصية.

رابعًا: الوقوع في الإشكالات الإدارية والتنظيمية في الأقسام العلمية، إذ إنها تتطلب خلفية تخصصية دقيقة، وقدرة على فهم احتياجات البرنامج ومتابعة شؤونه الأكاديمية والبحثية. وفي حال دمج الأقسام، يصبح من العسير التعامل مع التعدد المعرفي داخل القسم الواحد. كما ينعكس هذا الاضطراب على القرارات المتعلقة بالتعيين، والإشراف، والتطوير المهني.

خامسًا: ضياع الاستقلالية الأكاديمية فالأقسام المستقلة والمعنية بتخصصات محددة يمكنها تشكيل مجالس علمية تُعنى بتطوير المناهج، وتحكيم البحوث، ومتابعة الأداء الأكاديمي. أما حين يغلب على الأقسام عدم التخصص فإن الوضع الأكاديمي يتجه إلى ازدواجية المعايير، وتداخل المناهج العلمية، وربما يؤدي إلى اتخاذ قرارات من قبل لجان غير متخصصة تهتم بالشكليات أو (المظهر الخارجي) دون النظر إلى العمق العلمي وتبعات السطحية في دراسة الموضوعات والحكم عليها، وربما تؤول قرارتها إلى موازنات داخلية تعمد إلى تهميش بعض التخصصات العلمية، وربما لا تعكس الاعتبارات العلمية البحتة والتطلعات المستقبلية للجامعات وسبل النهوض بها وتحقيق غاياتها العلمية والأكاديمية.

إن التجارب العالمية ومعايير الاعتماد الأكاديمي تشير إلى أهمية استقلال التخصصات الدقيقة، كما تُشدد هيئات الاعتماد الأكاديمي على أهمية وضوح البنية التنظيمية والهوية الأكاديمية للبرامج بما يتوافق مع طبيعة المعرفة الحديثة وتخصصاتها الدقيقة.