عمل محرراً في قسم الشؤون المحلية بصحيفة "أخبار الخليج" البحرينية، ثم محرراً في قسم الديسك ومحرراً للشؤون الخارجية مسؤولاً عن التغطيات الخارجية. وأصبح رئيساً لقسم الشؤون المحلية، ثم رئيساً لقسم الشؤون العربية والدولية ثم نائباً لمدير التحرير في صحيفة "الايام" البحرينية، ثم إنتقل للعمل مراسلاً لوكالة الصحافة الفرنسية (أ.ف.ب) كما عمل محرراً في لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية.
سواء تعلق الامر بحرق السجناء أحياء أو حز رؤوس المدنيين العزل بدم بارد او رجم فتاة متهمة بالزنا او قتل شاب متهم باللواط، فان كلمة السر في المنطقة باسرها هي “الوحشية”، فلا يمر اسبوع دون ان نحظى باستعراضات دموية لتنظيم “داعش”.
لقد قيل الكثير عن “إدارة التوحش”، لكن هذه المبالغة في الوحشية تدفع المرء للتساؤل عن السر وراء القدر المبالغ فيه من التباهي في ممارسة هذه الوحشية. ثمة حقيقة بغيضة تخيم في سماء هذه المنطقة هي ان وحشاً كبيراً يمد اطرافه في جميع بلدانها. وبالمقياس الجيوسياسي، فإن هذا الوحش يتمدد بين قارتين: غرب آسيا حيث معاقله القوية في العراق وسوريا مع درجات متفاوتة من التعاطف الخفي في الدول المجاورة وفي شمال افريقيا، في شبه جزيرة سيناء وليبيا وتونس مؤخرا دون ان ننسى معتوهي “بوكو حرام” في نيجيريا بغرب افريقيا الذين اعلنوا مبايعة زعيم “داعش”.
لكن السؤال مازال يلح بقوة: كيف ولد هذا الوحش وكيف نما على هذا النحو المفزع؟ هل هو التطرف الديني الذي يغذي هذا الوحش بالمتطوعين من كل مكان؟ بغض النظر عن اصرار غالب المعلقين الغربيين والاعلام الغربي عموما على هذا التفسير وربطه بشكل مخل وفج بالاسلام، فإن التعصب الديني لا يبدو سببا مقنعاً او وحيداً. ان الميراث الثقيل للاستبداد الذي هيمن وما يزال على منطقتنا قد يعيد تذكيرنا بقانون “الجلاد والضحية”، في حين يذهب البعض بعيدا في التعامل مع المسألة في سياق التنافس الاقليمي عبر ربط تنظيم “داعش” بهذا البلد او ذاك. يجادل آخرون بان هذا التنظيم/الوحش هو صنيعة مؤامرة كبرى، غربية بالطبع.
ان الاجوبة المأمولة قد تكون مزيجا من هذا كله، لكن ليس بالضرورة حرفياً. فالصراع والتنافس الاقليمي والتطرف الديني لا يمكن ان يقدما تفسيرا كافيا ومقنعا لهذا المستوى من الوحشية ولا يمكن ان يفسرا ايضا تحول الصراعات في هذه المنطقة الى صراعات تفتقد لمرجعية أخلاقية الى الحد الذي اصبحت محكومة فيه بمعادلات صفرية. لهذا، تبدو المقارنة بين الانظمة المستبدة والمعارضة التي تنشط لإسقاطها غير ذات معنى لأن كلا الطرفين من نفس الطبيعة، بل ان غالب المعارضة (المسلحة خصوصا) تبدو أسوأ من الانظمة التي تقاتلها.
سأجادل هنا ومن خلال سياق تاريخي، ان قراءة فاحصة ومعمقة لتاريخ هذه المنطقة ستقودنا الى استنتاج وحيد يختزل هذا التاريخ في مفردة ذات تأثير مدمر: “الإذلال”.
ان الاذلال ليس فعلا عاطفيا من الحياة اليومية، بل انه فعل سياسي وتاريخي ولربما يقدم التعريف غير المتداول للسياسة عبر كل العصور. سواء تعلق الامر بالغزوات في العصور القديمة او السياسة في ايامنا هذه، يبدو الاذلال المكون الاساسي للسياسة والحياة اليومية على حد سواء. وليس هناك من فعل يفسر الاضطهاد والعدوات في السياسة ويلخص اهداف السياسيين والقادة العسكريين اكثر من الاذلال، فالنصر والهزيمة سواء في السياسة او الحرب لهما معنى واحد هو اذلال المنتصرين للمهزومين. لهذا فان معاهدة مثل معاهدة فرساي (1919) وصفت من قبل الالمان بانها معاهدة “مذلة” بغض النظر عن محاسنها للحلفاء المنتصرين. لكن الاذلال الكامن في تلك المعاهدة والذي إستشعره الالمان هو الذي قاد الى ظهور النازية وأدولف هتلر واندلاع الحرب العالمية الثانية.
تكاد جميع المعاهدات على مر التاريخ تنطوي على مذلة للمهزومين او الطرف الضعيف فيها، وليس افضل من التاريخ الاستعماري لكي يقدم لنا المثال الساطع على ذلك. فعلي سبيل المثال لا الحصر، كيف يمكننا ان نصف استعمار شبه القارة الهندية من قبل بريطانيا وإجبار الهنود على تدمير صناعة النسيج المحلية واجبارهم على شراء منتجات القطن الانجليزية؟ لا يمكن وصف هذا سوى بانه اذلال. وبشكل عام، كيف يمكن وصف احتلال بلد آخر بالنار والدم وحكمه بقوانين استبدادية وفرض تمييز عرقي وقمع واخماد اي مقاومة لسكانه؟ المؤسف ان السياسيين والناس لا يقرأون الارهاب في سياقه التاريخي، لكن في سياق اضيق ومجتزأ من التاريخ وغالباً بعمى أخلاقي.
قبل حوالي 12 عاماً، قدم الكاتب الامريكي توماس فريدمان نصيحة للرئيس الامريكي السابق جورج دبليو بوش حول كيفية التعامل مع متاعبه في العراق وفلسطين في مقال عنوانه “متى يعرف بوش تأثير الاذلال على العرب والمسلمين”. فحوى تلك النصيحة هي ان على بوش ان يقرأ بعناية خطابا القاه رئيس وزراء ماليزيا السابق مهاتير محمد في القمة الاسلامية التي انعقدت في اكتوبر 2003. كانت الكلمة المفتاح التي التقطها فريدمان في خطاب مهاتير هي “الاذلال”.
لقد كرر مهاتير كلمة “الاذلال” في خطابه خمس مرات حسب فريدمان الذي علق بالقول بعد عرض بعض مقتطفات من الخطاب: “اذا كنت قد تعلمت شيئا من تغطيتي للشؤون الدولية، فهي ان الاذلال القوة الوحيدة الاكثر تجاهلاً في العلاقات الدولية” (نيويورك تايمز، 10 نوفمبر 2003). لكن وبالرغم من بلاغته في الحديث عن اشكال الاذلال التي شعر بها العراقيون، فإن فريدمان مثل غالبية الكتاب الغربيين يمارس العمى الاخلاقي نفسه عندما يتعلق الأمر بالوضع في فلسطين. ففي معرض محاولته تفسير تأثير الاذلال على الفلسطينيين، يقدم تفسيرا محرفاً عندما يقول ان ياسر عرفات والقادة الفلسطينيين رفضوا عرضوا الرئيس بيل كلينتون في محادثات كامب ديفيد (عام 2000) لأنهم اعتبروا ذلك “مذلاً” وانهم “يريدون الحصول على هذه الدولة بالنار والدم”. وجه التحريف هنا او ما لم يشأ فريدمان ان يتحدث عنه هو الاحتلال ومعنى الاحتلال والحقيقة “الاكثر تجاهلاً” للاحتلال وهي “الاذلال”.
فالمعنى الوحيد لاحتلال أرض شعب آخر واقتلاعه من ارضه وتحويل حياته الى جحيم هو الاذلال. انه تحريف صغير لحقيقة ساطعة مثل الشمس عبر لوم الضحية وليس الجلاد، لأن الامر الأهم بالنسبة لفريدمان هو ان تبقى اسرائيل واحتلالها في حصانة ومأمن من اي لوم سياسي او اخلاقي. فالسيد فريدمان لم يتحفنا حتى اليوم بتأملاته عما يمكن ان يعنيه حصار مليوني نسمة من سكان قطاع غزة لسنوات طويلة وحرمانهم من متطلبات الحياة اكثر من ان يكون اذلالاً. أبعد من هذا، عما يمكن ان يعنيه هدم منازل الفلسطينيين في الضفة الغربية واقتلاع اشجارهم والسطو على اراضيهم واقامة المستوطنات عليها للمستوطنين اليهود وتحويل حياة الفلسطينيين الى جحيم في ادق التفاصيل عندما يقتضي تنقل الفلسطيني في ارضه المرور على عشرات الحواجز الاسرائيلية، اكثر من ان يكون فعل اذلال.
في مقاله ذاك، وبعد عرض قصة مسلية له ولمرافق عراقي وعرض بعض التفاصيل عن مشاعر الاذلال التي يشعر بها العراقيون، خلص فريدمان الى القول ببلاغة: “لهذا قال لي صديق باكستاني ان الولايات المتحدة تحتاج الى استراتيجية لازالة مشاعر الاذلال واعادة الشعور بالكرامة لدى العراقيين”. أوه نعم، بالتأكيد في العراق، لكن ليس في فلسطين.
لست لأروج هنا لنظريات مثل وقوف اسرائيل وراء تنظيم “داعش”، لكنني اجادل فقط في التأثيرات الهائلة غير المرئية للإذلال على سلوك البشر. وهنا، فإن اسرائيل والعمى الاخلاقي الغربي في دعمها دون تحفظ يمثل تاريخيا السياق والمولد الاكبر لمشاعر الاذلال (المستمر) الذي تستشعره وتعيشه بوطأة ثقيلة اجيال متعاقبة من العرب والمسلمين. أما الاستبداد في مجتمعاتنا فيتولى باقي المهمة.
ان العمى الاخلاقي الذي يلف ماكينات الاعلام الغربي هو اذلال ايضا. فتحريف الحقائق ولي عنقها والتلاعب بها وترويج الاكاذيب وتلطيخ وتشويه سمعة الآخرين كلها اشكال من الاذلال المستمر.
الاذلال لا يثمر عقلانية او تكفيراً منطقياً او اعتدال، بل رغبة عميقة وقوية في الانتقام بالمعنى الاشمل للكلمة. لهذا فان وحشية “داعش” شاخصة ومجسمة وعلنية الى ابعد الحدود. ولهذا أيضا، ثمة من يتعاطف معها من عامة الناس لأنها تجسد طقساً بصرياً يشبع مشاعر الإنتقام.
مترجما عن غلف نيوز – 1 ابريل 2015