محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت
بعض الإعلام المصري في الأسابيع الأخيرة غاضب من التصريحات التركية تجاه مصر، خصوصا تصريح رئيس وزراء تركيا السيد رجب أردوغان تجاه الشيخ الطيب شيخ الأزهر، حيث انتقد الأول موقف الأخير الإيجابي من التغيير في مصر. ليس هذا فقط وراء الغضب، بل مجموع حصيلة الحراك التركي الرسمي تجاه أحداث مصر الأخيرة التي أثارت الكثير من التساؤلات.
المراقب يقف محتارا حول مجمل موقف تركيا الرسمية، بعد أن كان الأصدقاء الأتراك يقولون – محقين – إن تجربتهم ليست للتصدير، وإنهم فقط يزرعون حديقتهم حسب اجتهادهم، ومن يعجبه الناتج عليه أن يجتهد في حديقته الخاصة بزرع يناسبه! كان الحديث منذ سنوات في أنقرة يتوجه لتصفير عداد المشكلات العالقة مع الجوار الإقليمي، وكانت تلك السياسة مرحبا بها من كثيرين على أنها موضوعية وحصيفة.
تطور الأحداث لم يترك مرحلة التصفير تستقر لتؤتي ثمارها، موجة «ربيع العرب» أربكت ذلك التوجه، ولما قربت الاضطرابات من سوريا زادت تركيا طوعا أو كرها غوصا في مشكلات الإقليم. التداخل مع المعضلة السورية، ومن ثم التطلع لدور في كل من تونس ومصر، بعد ربيع العرب، عطل الإيجابية التركية، بل تحولت إلى نقيضها، فقد رحب الأتراك كما رحب كثيرون بالتغيير في تونس ومصر، ولكن أصحاب السلطة الجدد في كلا البلدين العربيين لم يستمعوا إلى ما قيل إنه نصائح تركية لما أسرع لزيارتهم أردوغان، النصيحة هي «الاحتواء والتدرج»، النتيجة أن تركيا، كما ظهر في العلن، نأت بنفسها عن المسيرتين، المصرية والتونسية، وهما تحت مظلة نوع مختلف من السياسات، غير تلك التي اتبعها حزب العدالة والتنمية، إلى درجة أن بعضنا، ولا أنزه نفسي، قارن بين المرحلة المرسية في مصر، والمرحلة الأربكانية في تركيا، فقد عارض الأولى واختلف معها الأتراك الجدد (الأردوغانيون) وكانوا على حق.
كان بعض المراقبين العرب يرى أن نجاح «الأردوغانية» في تركيا هو نجاح لفكرة جديدة تأخذ من التراث ولا تتجاوز متطلبات العصر، أي أنها توليفة نجحت في إيجاد صيغة عصرية للحكم، على رأس أولوياتها تنمية المجتمع اقتصاديا وثقافيا، وتمكينه من النهوض من خلال التدرج، وتجنيبه التشنج والاستحواذ الآيديولوجي. ليس جديدا القول إن الممارسة «المرسية» في القاهرة كانت محط عدم رضا تركي، كالممارسة في تونس، كما أنه ليس جديدا القول إن الجيش التركي، بعد كل التغييرات التي أدخلها الحزب الحاكم، ومنها ما يغلق باب تدخله في السياسة، ليس بين ظروفه وظروف الجيش المصري مقاربة، التجربتان مختلفتان في المعطيات وفي النتائج. فما أسباب القلق التركي الذي أخرج كثيرا من التصريحات والممارسات المتسرعة، حتى غدت في مجملها تخدم خارج المصالح المرسلة والكبرى لتركيا في المنطقة؟ ليس ثمة تفسير إلا أن يكون هناك إما نقص فادح في المعلومات وإما قصور فادح في التحليل، إذا نحينا نظرية المؤامرة جانبا، القائلة بوجود حبل سري بين حزب واسع المساحة يسمى «الإسلام السياسي الدولي، الذي تتفرع مسمياته بين عدالة وحرية وتنمية»، إذا نحينا ذاك التفسير فليس ثمة إلا تفسير أخير، وهو القلق المرضي من «الحشود الشعبية». ربما كانت حشود ميدان تقسيم في إسطنبول قد أربكت الحكم التركي حتى صار يقلق من جراء وقوع سيناريو مماثل لما حدث في مصر، صحيح لقد جرى تقليص نفوذ العسكر الأتراك في السياسة، ولكن، وهذا هو الافتراض الذي ربما أقلق أنقرة، قد تستدعي تلك الحشود الشعبية بعض شهية العسكر من جديد، فيحصل التغيير في تركيا! تلك النظرية المتاحة لتفسير الموقف التركي! ولكنها وإن كانت مغرية إن تصدق تشي بتخوف لا مكان له حتى مع الارتياب المرضي المتعلق بالعسكر التركي! فالصراع الذي جرى داخل جسم الدولة المصرية في سنة الحكم «المرسية» وما صاحبها من سياسات كانت نتيجته أن ثمة توقعا مكتوبا على الجدران ينبئ بسقوط «المرسية» في تجلياتها الإخوانية، التي أغفلت كل ممرات خطوط التفاوض مع الآخرين في الوطن، مثل هذا غير موجود في الدولة التركية التي ركبت الكثير من المؤسسات التفاوضية حتى مع أعداء كانوا إلى وقت قريب يحملون السلاح ضدها، وعادت إلى صناديق الانتخاب أكثر من مرة في السنوات الأخيرة، من أجل تمكين المجتمع السياسي التركي من قول كلمته. مقارنة ذلك بمرحلة الترهل في اتخاذ القرار في القاهرة في السنوات الأخيرة، أو عدم القدرة على تصويب القرار واضح الخطأ، والتي كانت تسبب توترا عاليا بين القطاعات المصرية الحديثة، وقادت في النهاية إلى حتمية التغير.
يعرف الحزب الحاكم في تركيا ونخبته أن العودة إلى تجمع سياسي عابر للدول الحديثة أصبح من الماضي، وحتى النقاد والمتنطعون في السنوات الأخيرة، الذين تحدثوا عن «عثمانية جديدة» في تفسيرهم للصعود التركي، جرى نفي ذلك مرارا من قبل السلطات التركية، بل واستقبلت النخب التركية هذا الادعاء بالاستهزاء، على أنها حملة سوداء مضادة للنهوض التركي الحديث، وبناء علاقات إيجابية مع المشرق العربي، فلم يعد هناك مكان في عصرنا لـ«ازدواجية الولاء»! فكيف يمكن الوقوع في خطأ تظهر معه التصريحات التركية، للعين المجردة، وكأننا بصدد «تنظيم دولي عابر للدول»؟! أما إذا كان الألم الذي قاد إلى تلك التصريحات قادما من جانب الأسف على «الإطاحة بحكومة منتخبة»، فذلك يتنافى مع التعامل مع جماعات منتخبة ومطاح بها أيضا، كمثل حكومة حماس في غزة من دون كثرة ضجيج!
ما الذي يجعل الإدارة التركية الآن تحيي تناقضات مع دولة عربية كبرى مثل مصر، وهي تعلم أن ما حدث فيها كان واجب الحدوث بسبب قصور فادح في مخيلة الإدارة «المرسية» وما جاورها من حلقات، كما تعلم أن هذا التغيير مرحب به شعبيا في مصر، ومن قبل أصدقاء لها في المنطقة، تجمعهم معها هوامش استراتيجية وسياسية واقتصادية وافرة؟ هم يعرفون أكثر وبعمق المصالح الإقليمية وطريقة خدمتها بشكل أفضل! هل هو الإجهاد السياسي، الذي جعل النموذج الابتكاري الأردوغاني أقل خيالا تجاه هذه المسالة بالذات؟! هل الموقف التركي تجاه مصر قريب إلى «التسرع» السياسي حتى لا تستخدم كلمة «الحماقة» السياسية؟ في الوقت الذي يتوجب التنسيق الأوثق مع الجيران لتفادي الأسوأ في الجوار الإقليمي الذي يصطلي بنار حامية، خصوصا في سوريا، ثم كيف يمكن تفسير اصطفاف أنقرة وطهران، على ما بينهما من تناقض، على نفس خط النقد القاسي للتغير في مصر؟ ألم يلفت ذلك نظر المحللين في أنقرة أن هناك خطا ما قد ارتكب؟! الأكثر حكمة في هذا الوقت أن يترك الأمر في مصر لأهلها من دون الكثير من الإثارة، ذلك يمكن أن يحقق مصالح استراتيجية أكثر عمقا من مناصرة تجربة يعرف الأتراك قبل غيرهم أنها لم تكن تحمل عناصر النجاح.
آخر الكلام:
في السابق كان السؤال: هل لديك المعلومة؟ أما اليوم فإن السؤال: هل لديك الوعي لنقد المعلومة المقدمة إليك؟
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط