كاتبة في صحيفة البيان
قديماً كان يطلق المسْرَد على اللسان، تغير المسمى مع الوقت واتجه نحو المُثقب أي الخارز، ثم المخصف فالنعل فالناسج.. وهكذا على كل ما يتطلب جهداً ونسقاً.
وحين نأتي إلى أصل كلمة السرد، نجد أنها تُقدمُ الشيء إلى شيء بنسق وتتابع، ليصوغ الروائي الأثر في معبد دفتره..
وقد تعوّد بعض القراء الجادين أن يطلق كلمة سرد على عملٍ روائي ويرحل، هكذا جزافاً إن لم تعجبه الرواية.. يدير ظهره ويقول: سرد..
لكن أليس السرد علماً؟
الخطاب السردي ليس سهلاً ليشكله الروائي، فلا بد أن يكون المنتج بالمستوى الفني المطلوب.. ربما كان السرد الأدبي من الفنون الأدبية غير المستساغة جماهيرياً عندنا، لكنه فن يُدرس وإن لم يعجب القارئ أو لم يتعود عليه.
وهنا يأتي دور القارئ ليسأل نفسه؛ كيف يقرأ؟ هل يقرأ كمن يتصفح؟ أم يُجزئ الرواية تبعاً لوقته؟ أم ينحو إلى القراءة المتعجلة؟ وفي سرعته الفائقة هل يعير الرموز اهتماماً؟ وهل يفهم المعاني كما يجب؟ هل يفسر؟ هل يلتزم بمواضع الوقف؟ هل يربط بين المفردات ويمزجها بخياله؟ هل يغوص فعلاً في المادة المكتوبة؟
منذ القرن الثامن عشر فقط، خرجت الرواية إلى الحياة بوصفها فناً وكتابة موثقة، تصور مجتمعاً وتدرس السلوك الإنساني بنضال إيجابي لمكافحة السلبية.. لتأتي أحياناً بأسلوب طبيعي عقلاني، وأحياناً أخرى ككوميديا أو كعبث فلسفي هادف.. وهكذا حتى وصلت الآن إلى بنية سردية واعية كعلم، ليطلق عليه علم السرد.
تمضي الرواية الساردة وهي تصوغ الأحداث المتصلة ببعضها.. يحتشد في ذاكرة الرواية الشجن الهائل والمستمر، وبنصوص موسيقية وخيال واسع، فيغدو الروائي هو السارد العليم.
هذا الروائي المالك للنفس الطويل لسرد روايته، يضعنا بين السماء والأرض، نسبح بين المفردات في فضاء هاجسه وأنفاسه التي يحيكها بجمال، ليشكل لنا البستان الأخضر ويضعنا من جديد على طين الأرض.. وليس لهذا السارد أية أهداف سوى قارئ يقرأه، يصقله، يثقله، يعززه..
يقول البعض منزعجاً، إن الرواية سرد.. ولا يعلم أن السرد حنين يطلقه الروائي من ضميره، يسكبه بين عيني قارئ يشاكسه، يشعله، يفتش ما بنفسه ويسرد حتى يبكيه، ليأتي بعدها معطراً عينه بالأحداث المتتالية، ليجعله واهماً، دامعاً، ضجراً، محتضراّ بين ثنايا سرده. السرد طاقة تعبيرية هائلة، تفجر اللغة لتخرج العبارات إلى الحياة.. ينثر الروائي السارد الحكاية نثراً سردياً، بوعي خطابي له خصائصه بآلية التشغيل غير السهلة أبداً.. فالرسالة السردية في الرواية لا بد أن تخرج بصورتها الفنية.
والآن بعد أن أصبح السرد مادة تدرس في الجامعات كفن، بوصفه فرعاً من فروع الأدب، لم يعد يخشى الضياء، بل يؤسس له ولجمال غايته من الضوء ليصبح علاجاً.. ما يميز الرواية الجادة في الوقت الحاضر، هو سرديتها لتمجد الحياة وتتخذها مثالاً يحتذى.
المصدر: البيان