قد يشكّل فوز دونالد ترامب بالرئاسة انتقالة نوعية في السياسة الأميركية. المسألة هنا ليست سابقة أن الرجل يأتي من خارج القطاع السياسي ويفتقد كامل الخبرة والاطلاع، ولا أنه أظهر الفاحش من السلوك والأخلاق. ولا هي في إبراز شروخ عميقة، جيلية وطبقية وثقافية وعرقية، كانت مطموسة إلى حد ما في المجتمع والثقافة في الولايات المتحدة، وإن كان هذا الأمر يستحق المتابعة والمعالجة بعيداً من كل الإهمال الذي طاوله والمبالغات التي تجعله في أعقاب فوز ترامب ظاهرة خطيرة مفاجئة… ولا في تبيان الوهن في المؤسسات الحزبية، فالجمهورية منها عجزت عن احتواء ظاهرة ترامب ابتداءً، والديموقراطية تخلّفت عن إيجاد السبيل إلى احتواء حملته الانتخابية، ما أدّى إلى خسارة هيلاري كلينتون الرئاسة، على رغم تفوّقها عليه في مجموع أصوات الناخبين.
الانتقالة النوعية هي أن ترامب مهيّأ لنقل الولايات المتحدة إلى نظام حكم استبدادي يناقض تجربتها التاريخية الطويلة.
النظام الدستوري في الولايات المتحدة يسعى صراحة إلى تجنب التفرد بالسلطة أو إساءة استعمالها عبر الفصل والموازنة بين فروعها التنفيذية والتشريعية والقضائية، على رغم التحبيذ النسبي الذي يقدّمه الدستور لشخص الرئيس، إذ يحصر به السلطة التنفيذية، ويمنحه كذلك صلاحية إصدار المراسيم لتأطير الخطوات التنفيذية التي يرى تحقيقها من دون العودة إلى مجلسي النواب والشيوخ. أما العرف الدستوري، فاصطلح على اعتبار المراسيم الرئاسية حالات نادرة.
ولكن، في أعقاب اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) ٢٠٠١، وفي سياق السعي إلى التعجيل بتطبيق الإجراءات الأمنية، توسّع الرئيس السابق جورج دبليو بوش في استصدار المراسيم، بموافقة ضمنية وصريحة من السلطة التشريعية. وبعد تولّي باراك أوباما الرئاسة عام ٢٠٠٩، وإزاء إصرار الحزب الجمهوري علناً على رفض كل ما قدّمه من مشاريع قوانين في سعي صريح إلى إفشال عهده، تابع أوباما سابقة بوش، وقام بإصدارات متوالية للمراسيم الرئاسية بغية تحقيق جزئي لبرنامجه الانتخابي. وفيما رأى بعضهم في نهج أوباما تجاوزاً للفصل بين السلطات واعترض عليه علناً، جعل ترامب أحد الوعود المتكررة في حملته الانتخابية نقض المراسيم كافة التي أصدرها أوباما ما أن يبلغ سدة الرئاسة. غير أن اللافت في وعد ترامب أنه لا ينطوي على اعتراض على مبدأ إصدار المراسيم ولا يشكو تعدّيها على صلاحيات السلطة التشريعية، بل يرفض فحسب ما جاءت به من حيث المضمون. فليس ما يشير إطلاقاً إلى أن الرئيس العتيد ترامب سيمتنع عن إصدار المراسيم، بل، بناءً على أقواله التي تكرر الإشارات إلى عزمه فرض ما يرتئيه، يمكن توقع أن يعمد إلى إصدار ما طاب له منها.
الفارق بين ترامب وكل من أوباما وبوش، أنه، إذ يدخل البيت الأبيض في كانون الثاني (يناير) المقبل، فيما الكونغرس بمجلسيه في يد حزبه، لن يُضطر إلى إصدار المراسيم إلا من باب تحقيق إرادته من دون رقيب وإرغام محازبيه على تنفيذ ما يشاء، لا سيما أن منهم من لم يُبدِ سابقاً الولاء المطلق له.
وترامب الذي أظهر خلال حملته الانتخابية، كما طوال عمره، عجزه عن الامتناع عن الرد على أي نقد أو اعتراض، مهما كان مصدره ومهما كانت طبيعته وعواقب الرد عليه، خصّص بعض ردوده الأكثر حدّة لمن تأخر عن تأييده من الجمهوريين. بل تتحدث أوساطه عن إمعانه في الحديث في مجالسه الخاصة عن رغبته في الانتقام من كل مَنْ اعترض سبيله، واحتفاظه بالقوائم لهذا الغرض. فالأدوات متوافرة لترامب الرئيس، للشروع في فرض ما يريد من خلال المراسيم ومن خلال تصوّره لصلاحيات الرئاسة.
ترامب، في إصراره المتواصل على تفوّقه وعظمته، قدّم نفسه للجمهور الناخب ليس كرئيس يسعى إلى كسب تأييد الوجوه السياسية البارزة، بل كزعيم غير مقيّد بما يجيزه الدستور أو ما توافقَ عليه مَن سبقه. واستدعاؤه الأمثلة المحمودة في رأيه من الماضي والحاضر جاء دوماً ضمن إطار مدح القوة والطغاة وذمّ مراعاة الحقوق على أنه ضعف. فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يحظى بتقديره، لما يُظهِره من حزم وصرامة في بلاده (ولامتداحه ترامب كذلك). وصدام حسين نفسه نال ثناءه لعدم تردّده في قمع «الإرهاب» وقتله الإرهابيين على الفور، من دون أن يتضح من كلام ترامب عمّن يتحدث في هذا الشأن. والسلطات الصينية، في إرسالها الجيش لقمع التحرك السلمي في ساحة تيانانمين عام ١٩٨٩، تلقى إعجاب ترامب كذلك. وحين يتوعّد ترامب المنظمات الإرهابية بالتحرك ضدها، يأتي كلامه دعوة صريحة إلى استعمال وسائل التعذيب وإلى قتل الأقارب وتدمير المدن. فالنمط ثابت ومتكرر بما يكشف منطق زعامة تتوقع الولاء المطلق وإلا عمدت إلى العقاب الصارم غير المقيّد، بدل منطق رئاسة تلتزم الأطر المتاحة لها وفق الدستور وتسعى إلى التوافق.
لا شك في أن ترامب أعرب في غير مناسبة عن رغبته في احتضان الجميع وطي صفحات الخلاف، وآخر نموذج لذلك كان في سياق كلمة الفوز بالرئاسة صبيحة الأربعاء الماضي. إلا أنه إذ يبدو جلياً في المناسبات أن ترامب يتحدث بناءً على توجيهات طاقمه، وبلغة مركّبة فصيحة تختلف عن لغته المسطّحة المعتادة، فإنه في كل المناسبات السابقة سرعان ما عاد إلى أسلوبه المناكف عند أقل استفزاز.
فهل ترامب قادر على الانتقال إلى الاتزان والاعتدال والمنطق حين يدخل البيت الأبيض، ويحظى بصلاحيات وسلطات يصبح معها الرجل الأقوى في العالم، فيشعر إزاء هذا المكسب بالتواضع وتقدير جسامة المسؤوليات الملقاة على عاتقه، أم يرى في إنجازه هذا دليلاً جديداً على عظمته وذكائه وتفوقه، فيعود إلى صبيانياته كما فعل تكراراً خلال الحملة الانتخابية؟ الرغبة العارمة لدى كل الأوساط هي أن يتحقّق الاحتمال الأول، ولكن للأسف، الأقرب إلى الواقعية أن شكلاً ما من أشكال الاحتمال الثاني قد يحدث، ومعه تُختَبر قدرة النظام السياسي في الولايات المتحدة على اعتراض داء الاستبداد.
المصدر: الحياة