عمل محرراً في قسم الشؤون المحلية بصحيفة "أخبار الخليج" البحرينية، ثم محرراً في قسم الديسك ومحرراً للشؤون الخارجية مسؤولاً عن التغطيات الخارجية. وأصبح رئيساً لقسم الشؤون المحلية، ثم رئيساً لقسم الشؤون العربية والدولية ثم نائباً لمدير التحرير في صحيفة "الايام" البحرينية، ثم إنتقل للعمل مراسلاً لوكالة الصحافة الفرنسية (أ.ف.ب) كما عمل محرراً في لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية.
تُعيدني صيحات الشكوى من شبكات التواصل الاجتماعي، إلى الثمانينات من القرن الماضي مع انتشار أجهزة الفيديو. فوسط صيحات الفزع نفسها، راح كثيرون يُحذّرون من الجهاز الجديد وتأثيراته السلبية (مقابل ملطف لمفردة الشيطانية) على الصغار. وفي إحدى الندوات التي نظمها أكاديميون للتحذير من مخاطر الفيديو، رفعت سيدة بحرينية يدها لتطرح سؤالاً دفع المتحدثين للصمت: “هل يتعلق الأمر بالجهاز أم بطريقة استخدامه؟”.
وما أن جاء منتصف التسعينات، إلا وتصاعدت صيحات الفزع من جديد لكن مع ابتكار آخر هذه المرة يدعى: “الانترنت”، والضحايا المفترضون هم أنفسهم: الشباب والناشئة وضحايا جدد أضيفوا للقائمة: النساء.
أين أصبح جهاز “الفيديو” الآن؟ في أقل من عقد من السنين، أخذ ذلك الابتكار “الشيطاني” طريقه إلى متحف الذاكرة وماهي إلا سنوات حتى عمت أجواء فزع جديدة مع انتشار الهواتف المحمولة ذات الكاميرات وتقنية “البلوتوث”.
الراديو، التلفزيون، الدراجات الهوائية قوبلت بنفس صيحات الفزع، بل إن الدراجات الهوائية أسميت في جزيرتنا العربية “خيل إبليس” لأن أطباء الإرسالية الأميركية في البحرين كانوا يستخدمونها في تنقلاتهم على ما يوثقه كتاب “القوافل” للكاتب البحريني خالد البسام. ما يبدو اليوم مضحكاً هو “متلازمة قدرية” يعيشها العرب جيلاً بعد جيل، تختزلها صيحات الفزع إزاء أي ابتكار علمي جديد يحدث تحولاً في حياة الناس في أي عصر.
الصيحات اليوم تحوم حول وسائل التواصل الاجتماعي، فشبكة الإنترنت لم تحدث سوى تحول من نوع واحد هو أنها خلقت عالماً افتراضياً موازياً. لكن توصيف هذا العالم بأنه افتراضي، لا يقدم سوى تعريف. فما يدور على الشبكة بات في جزء كبير منه لا يعكس سوى العالم الواقعي، لكن المشكلة ليست في كون الشبكة وسيلة نشر وتواصل، بل للإمكانات الهائلة التي توفرها للفرد العادي متى ما امتلك حاسوباً أو هاتفاً ذكياً ليلعب أي دور يريد وبوسائل تمويه تقطع الأنفاس. لقد بددت الإنترنت النزعة القديمة لدى الإنسان في السيطرة على ما حوله، ولأن السيطرة بكل معانيها الإيجابية والسلبية باتت مهددة، فلقد اتجهت الحكومات إلى العالم الافتراضي أيضاً لكي تمد سيطرتها هناك. فضيحة تنصت وكالة الأمن القومي الأميركية على الشبكة التي كشفها الأميركي إدوارد سنودن أفضل برهان على ذلك.
لمعضلة العرب مع الجديد، أكثر من وجه، فإلى الرفض والتشكك ثم القبول على مضض، يكشف المحتوى الذي يتعامل به مستخدمو شبكات التواصل من العرب جانباً آخر من المعضلة. فالبحث في هذا المحتوى سيقودنا إلى أن نكون أمام مادة تدور في الغالب ما بين تنويعات الشعر أو أشكال خفيفة من الابتزاز العاطفي (لو كنت مسلم دوس لايك) والنوستالجيات (من الزمن الجميل.. إلخ) إلى كوميديا المفارقات والمناظر الطبيعية واللقطات الرياضية ولقطات صراع حيوانات وصولاً إلى اللقطات المقدمة دوماً بكلمة: “فضيحة”.
تكاد هذه الكلمة أن تكون أكثر الكلمات تداولاً في صفحات الفيسبوك خصوصاً، فكل المفارقات تسمى “فضيحة” واذا ما أضيف إلى ذلك اللغة الركيكة التي تكتب الكلمات مثلما تنطقها، فإن الأمر وصل درجة من التردي تجعل معلمي اللغة العربية يضربون رأسهم في الجدار على هذا التدهور المريع في اللغة.
أما النشاط السياسي على الفيسبوك فهو أقرب للهجاء منه إلى أي شيء آخر عدا استثناءات قليلة تؤكد الأصل. ففي موقع “تويتر”، يبدو الأمر مثل الموضة عندما تجد غالب أصحاب الحسابات يكتبون تعريفاً عن أنفسهم يستوحي مفردات الشرعة الدولية لحقوق الإنسان مثل: “إنسان يؤمن بالحرية والتعددية والتسامح” ومع التصفح تجده وقد كتب تغريدة تقول: “هؤلاء الكفرة الأنجاس العملاء مصيرهم الموت”.
لا تحصي هذه الأمثلة ما يدور في مواقع التواصل الاجتماعي، لكنها تقدم عينة لما يدور فيها، العبرة هنا بالنسبة لي هي أن ما نقرأه في هذه المواقع من مستخدميها العرب يعكس ما في نفوسهم، ومستوى تفكيرهم والأهم نوع الاهتمامات التي تشغلهم. فإذا ما أضفنا الجدل المضني والمهلك حول الفتاوى وتفسير الأحلام، والتضليل المتعمد بالأخبار والصور المنحولة والشتائم الطائفية، فإن هذا المحتوى يجعل التصفح هنا عذاباً لا يطاق. أخطر ما في الأمر أن الشبكة باتت أداة مهمة في التضليل على جميع المستويات، عندما يتناقل الكثير من المستخدمين ودون تدقيق مواد تنطوي على تضليل وحرب دعائية واضحة في قضايا لا تحصى، سياسية وثقافية وفكرية.
هل هناك فارق بين المستخدمين العرب وغيرهم؟ في المواقع الأجنبية سواء في الغرب أو في آسيا، يبدو المحتوى أقل صخباً ويكاد الفارق أن يكون واضحاً للعيان: معلومات واهتمامات “عملية” مقابل غيبيات وتفاهة وأحلام. أما السياسة، فهي في لدى المواقع الغربية معلومات ولدى المستخدمين العرب هجاء وشتائم ونميمة وبذاءات.
خلاصة القول، الأمر لا يتعلق بالوسيلة بل بكيفية استخدامها وتلك معضلة أخرى يُجسّدها الآن التعامل مع شبكة الإنترنت بكل ما فيها مثلما انطبقت على الفيديو وكاميرات الهواتف المحمولة من قبل، وعلى «خيل ابليس» مطلع القرن العشرين.
المصدر: صحيفة البيان