دولة الإصلاح .. الخيار التاريخي – يحيى امقاسم

أخبار

يأتي كتاب “السعودية البديلة ـ ملامح الدولة الرابعة“، عن دار التنوير 2011، للصحفي السعودي أحمد عدنان، حريصاً على ترسيخ فعل الإصلاح في منظومة المفكرين والساسة داخل المملكة ويترصد ملامح التحولات وأدوات التحريك ولا غرو أن يقدم له المفكر السعودي تركي الحمد الذي عرف خلال ثلاثة قرون بطرحه الجاد والعلمي كشاهد مهم على المجتمع وتاريخ المملكة الحديث ، فضلا عن مجايلته لأصوات اليسار في الستينيات والسبيعينات الميلادية، حيث بدأ استهلاله لهذا الكتاب مبيناً أن “الشعوب العربية اليوم لم تعد ذلك المتلقي للفعل، بل إنها في هذه اللحظة دخلت على خط التغيير السياسي، وعبّرت عن نفسها بنفسها، وليس عن طريق وسيط معين، أو إيديولوجيا محددة”؛ مؤكداً أن على النخب السياسية والفكرية ألاّ تقف أمام إرادة المجتمع في الإصلاح كما حدث مع حالة “الملكية في روسيا” ثم بعد التحول إلى “الاتحاد السوفيتي” الذي انهار بدوره لعنت تلك النخب أمام إرادة التغيير، إذ يلزم عدم تجاهل “ضرورة الإصلاح” في الوقت الذي تعلن الشعوب هذه الحاجة الملحة اليوم، وعلينا أن نقرأ المقومات الحالية التي تختلف قطعاً عن المعطيات قبل عقود طويلة من الزمن وخاصة في عمر كبير يتجاوز القرنين من الزمان هما عمر المملكة العربية السعودي حيث النشأة الأولى وحتى تماثل تكوينها الحديث لهذا العصر الزاخر بالمتغيرات، مشيراً إلى أن اللحظة الحاسمة نعيشها لبناء المستقبل وبفعل مؤسساتي من داخل الحكومة وليس من من خلال مطالب نخبوية أصواتها متفرقة. كما يجب “ألاّ يُنظر إلى هذه الدعوات على أنها نوع من المعارضة للنظام” فهي تحمل صدقاً لاستمراره وعمل التصحيح وفق ما تفرضه المرحلة.

ومن هذه الرؤية ينطلق أحمد عدنان بداية من حيث تسمية كتابه “الدولة الرابعة” نظراً لما تقدمه المرحلة من معالم تختلف عن تفاصيل بناء السعودية الأولى والثانية والثالثة تاريخياً، وإن كان يجانب إرثاً كبيراً لمنظومة الجمع وما تشكل معه النسق الاجتماعي خلال القرن الماضي، ويتضمن الكتاب فصولاً مختلفة أتت مجملها من رحم اشتغاله الصحفي وكتابة المقالات التي أراد منها أن تكون “شاهد عيان” على أحداث محددة أعطت بعداً لمعالم الدولة “الرابعة”. وهو يصوغ تلك المقالات من خلال وحدة متينة تخرج إلى رؤية واحدة حيال الإصلاح في المملكة وأطواره وأشكاله والأفق الذي ينتظره، لم يخذله حسه الصحفي الذي يعتمد البحث والاطلاع والتقصي وحدس المهني لا الخبير في هذا الشأن تحديداً الذي يحلل ويحقق النتيجة.

وقد بدأ الكتاب بالسؤال “أين أخطأ الليبراليّون وهل تجوز المصالحة؟، في إشارة إلى أن هناك هلامية في تحديد اللبراليين السعوديين، فهذا الوصف جاء لتحديد الطرف الآخر بالنسبة لـ”التيار الديني السلفي والحركي منه على وجه الخصوص”، وفي الحقيقة أنه لا يوجد تيار ليبرالي وإنما أفراد ليبراليين يلزمهم للتغير الفعلي أن يتجاوزوا مرحلة البيانات والخطابات وأن يتم توجيه العمل لدعم المؤسسات ومن ثم يتم من خلالها إصلاح يجب تحريره أولاً من دائرة تلك النخبة إلى مطلق العموم في المجتمع. كما يلزم إفشاء مبدأ المصالحة بين هذه النخبة والمؤسسة السياسية، وعدم شتات خطاب هذه النخبة والعمل على تعزيز النظام الأساسي للحكم والتمييز بين السُلط الثلاث.

ولم يغفل المؤلف عن أهم المفاصل التي عاشتها البلد في السنوات الأخيرة من حيث مواجهتها لحملة السلاح ودعاة العنف، موجهاً شكره إلى مهندس الحرب على الإرهاب، الأمير محمد بن نايف الذي تصدى للإرهاب والتطرف فكراً ورجالاً حتى النهاية، وحتى آخر فرد، وفي جانب آخر تطرق لجامعة (كاوست) للعلوم والتقنية كبرنامج إصلاحي واضح أتى بأمر خادم الحرمين الشريفين ولا يعود لمطلب من التيار الليبرالي الذي دافع عن هذا المشروع في حادثة مهاجمة الجامعة عندما لاقت خطاباً متشدداً من أحد علماء الدين. واستشهد بقول خادم الحرمين في افتتاح هذه الجامعة “العلم والإيمان لا يمكن أن يكونا خصمين إلا في النفوس المريضة، لقد تعرضت الإنسانية لهجوم عنيف من المتطرفين الذين يرفعون لغة الكراهية، ويخشون الحوار، ويسعون للهدم، ولا يمكننا أن نواجههم إلا إذا أقمنا التعايش محل النزاع، والمحبة محل الأحقاد،…، ولاشك أن المراكز العلمية التي تحتضن الجميع، هي الخط الأول للدفاع ضد هؤلاء”. وفي بحث خاص يفرد المؤلف العرض عن الفتوى وأهمية قرار الملك في تحديد من له الحق في إصدارها وأن القاون هو الأحق بالتشييد الوطن نظراً للاختلاف الجوهري بينه وبين الفتوى، ويضيف أهمية وجود المرأة في الحكومة وكذا وجود برامج تنموية واضحة ومحددة ويمكن متابعتها، فالخطط القائمة “بحاجة إلى مراجعة وإعادة تقويم على صعيد المنهج والنتائج ومتطلبات الواقع الذي يفرز كل يوم تحديات جديدة لم تكن موجودة وقت صياغتها، مثلا: مكافحة الإرهاب فكرياً، مواجهة البطالة والفقر، وتمكين المواطن من حقوقه السياسية، كما يلزم الحرص على تمثيل الشباب في مجلس الوزراء.

ويقضي عدنان في مسألة الحديث عن “العلمانية” في السعودية بأنه “ضرب من الجنون” بسبب الفتاوى الهائلة التي تكفر العلمانيين وتحرم العلمانية تحت عناوين “الحكم بغير ما أنزل الله مثلاً”. فيما يرى الجانب الآخر من النخب في السعودية أنه لا بد من “استكمال بناء الدولة الحديثة… ومعالجة مظاهر الانتماء لمستويات أدنى من مستوى الدولة (القبيلة – المذهب – الإقليم) وتعزيز الولاء للنظام السياسي…”، وقد ذهب في بيان تاريخ العلمانية الأوروبية مستخلصاً أنه لا يوجد أي حراك علماني في السعودي، وأن “شيوع صورة نمطية (سلبية) عن العلمانية في السعودية واضح ومبرر لظروف نشأة الدولة وموقع رجال الدين اجتماعياً وثقافياً وسياسياً”.

وكان لمصطلح “الوهابية” حضوره عن طريق مداخلة الأمير سلمان بن عبدالعزيز في صحيفة (الحياة) بتاريخ 28 أبريل 2010 بعنوان “فليحذر الباحثون من فخ مصطلح الوهابيّة” بسبب معرفة الوسط الفكري والثقافي بشغف الأمير بالقضايا الفكريّة والثقافيّة وإيمانه بتأثير الكلمة على عقول الناس وقلوبهم وصداقاته الواسعة بعدد كبير من المثقفين والصحافيين العرب، ويبحث في إمكانية تغير الخطاب تجاه هذا الموضوع والانطلاق من جدوى المعطيات القائمة، حيث يرى الكاتب أنه ينبغي ألا تكون هذه المداخلة نهاية المطاف في الحوار الفكري بشأن “الوهابية”، بل بداية هذا الحوار الذي نحتاجه، وتحتاجه (الوهابية) على وجه الخصوص”؛ مسجلاً أمثله في ذلك توضح أن هذا المصطلح كان رائجاً من دون أن يُستخدم للإساءة والتشويه، حتى تم استبداله بمصطلح السلفيّة”. ويتوخى الكاتب الحذر من أن يخطئ في حق دعوة الشيخ، أو رد الآراء المحايدة والمستقلة إلى الصواب، فالفرد هو المسؤول”، وذكر أن “محاولة ربط مفهوم الشرعيّة السياسية بالأيدولوجيا (دينية أو سياسية) يعني تكبيل المؤسسة السياسية برغبات وتأويلات الأيدولوجيا”.

وعن أزمة الصحافة يرى الكتاب أنه ليس لائقاً إقالة رئيس تحرير أو إيقاف كاتب مستشهداً بقول الملك عبدالله في افتتاح الملتقى الأول للحوار الوطني إن “إسلوب الإقناع ومخاطبة العقل أفضل من أسلوب المنع والحجب، واختلاف الآراء وتنوع الاتجاهات وتعدد المذاهب أمر واقعي في حياتنا وطبيعة من طبائع الناس”، مشيراً إلى أن للصحافة دور كبير في العملية الإصلاحية التي أتت وفق نهج الملك.

وعن حقيقة “حنين” يعدد المؤلف أسباب فشلها ومنها أن السعوديين يثقون في ملكهم، وأنهم لا يريدون الثورة على النظام، بل إصلاحه وتبني التغيير، وأن هاجس الإصلاح ينتشر بينهم، كما أن الثقافة الليبرالية أزاحت الفكر المحافظ جانباً، ثم أتى على قرارات القيادة من حيث اهتمامها بتحسين الخدمات وإغداق الأموال على المواطنين، مع تأجيل مفاصل هامة في الإصلاح واحتكرت المبادرة.

ونحن نجد في الفترة الأخيرة احتداماً بين التيارات المختلفة وهو من قبيل الحراك الفاعل الذي تعيه الدولة ويلزم أن يتهيأ إلى منظومة واحدة في الرؤية نحو مستقبل واعد، وأن الاشتغال على هذا النحو هو القراءة الحقيقية لواقع الحال وتحول ظاهر في إدارة الدولة مما يشكل ملامح مغايرة لهذا البلد الذي يتماهى والتحول للتبشير بالتغير والإصلاح دون ملاحظة هذا التحول بشكل مباشر فالصيرورة التاريخية التي تتشكل فيها أركان الدولة ومفاصلها الهامة، تمتلك من الظروف ما يجعلها متمسكة بمطلب الاعتدال في تحقيق مفهوم الدولة، وهو اعتدال يدفعه جيل وأكثر حتى تتمكن بلد ما بحجم المملكة وواقعها أن تتخلص من إرث كبير ونمط اجتماعي في سبيل فتح باب المشاركة على مصراعيه، وهذا يأخذ من الزمن ما يأخذه المجتمع من وقت لإشاعة الوعي بالحقوق الأساس وبالمفاهيم حول الدولة والوحدة الوطنية التي ما زال الخلاف قائم حيالها بين فئات المجتمع؛ فكل فريق متحصن بإرثه من الجغرافيا والقبيلة أو بنصه الديني المكيف حسب حاجته المستقلة عن حاجة الفريق الآخر. ومن هنا تحديداً نجد اليوم الكثير من الكتاب المفكرين والأدباء يدعون الدولة والمجتمع للتبصر في هذا الواقع خشية من الشتات الذي هو محل اهتمام الممكلة بثقلها العربي والعالمي، إذا ما علمنا أنها بقدر مساعيها المعلنة كلاعب أساسي في الاستقرار ومعالجة الانشاقاقات والتفرقة خارجياً، هي معنية في المقام الأول بهذا الداخل المترامي وأمام هذا الظرف الصارم والمفصل التاريخي.

ويعد كتاب أحمد عدنان من قبيل تلك الدعوات والذي يمكن القول عنه أنه انموذج جاد في الفحص والتقصي لواقع العملية الإصلاحية في المملكة العربية السعودية واستعراض معالم مراحلها وقراءة الأحداث المتعلقة بتلك العملية، وهو كتاب قدم سجلاً أمام “الربيع العربي” مستبقاً الباحثين والدارسين لهذا الشأن.

 خاص لـ ( الهتلان بوست )