أنا الجَنين الذى مات فى بطْن أُمه منذ أسبوع مضَى، جنين فتاة، فى عُمر ثلاثة أشهر، قُتِلتُ حين قُتِلتْ أُمى، عروس قريةِ «مشتهر بالقليوبية»؛ (كريمة محمد صقر)، سعيدة لأننى لم ألتقِطْ أنفاسى فى عالَمِكم؛ المجتمَع الذى لا أعرف لماذا يقتُل الرِّجال فيه النساءَ؟ لماذا يَظَل رجُل يضرب زوجتَه بخرطوم المياه على رأْسِها وجسَدِها، ثم لا يتركها إلا وهى محطَّمة العظام، ومَيْتة؟
تركتُ أنا وهى هذا العالَمَ الظالِمَ، الذى لا ثمَن فيه للمرأة، ولا كرامة، ولا مستقبَلًا عادِلَا؛ حيث يتحكَّم فيها وعْيٌ جمعيٌّ، يستسيغها مقتولة، ومغتصَبة، ومنهوبة حقوقها، وعْيٌ يرَى فى النساء مِلكية خاصة للرجُل، يصبُّ فيها كل أنانيته ورغباته وفَشَله.
فى الشهور القليلة الأخيرة، قطَع أحدُهم رأسَ عروسِه؛ لأنه اعتقد أنها ليست بِكْرًا، ثم لم يكتفِ بهذا؛ بل ذهَب برأْسِها إلى والدها، ثم أثبت الطب الشرعيُّ أنها لم تَزَلْ عذراءَ. والآخَر قتَل عروسَه لأنه لم يستطِع أن يُعاشِرَها، قتَلها يومَ زِفافهما؛ لعَجْزه. وقتَل ابنٌ والدتَه، فى كوفى شوب، ليتساءل الكثيرون ماذا كانت تفعل فى الكوفى شوب، لا يستنكر أحدٌ الفِعلَ؛ بل يحاولون البحث عن جريمة اقترَفَتْها الأُم. وعشرات الحالات الأخرى من الاغتصاب، وزِنا المحارم، حيث تحمِل المرأة على عاتِقِها الذنْبَ وحْدها، فتصبح هذا الكيانَ الشيطانيَّ، المنبوذ من الجميع.
وأرجو ألَّا يَقُول لى قائلٌ إن هناك جرائمَ أخرى، تقتُل فيها المرأةُ الرجُلَ، أو تُشارِك فى قتْله، فتلك جرائمُ تقَع بالفعل؛ غيرَ أنى أتحدَّث هُنا عمَّا بَدَا ظاهِرةً فى الآونة الأخيرة.
حوادثُ قتْل النساء، التى تنجُم عن خلافات يومية، قضية عالمية مؤلِمة، ومعقَّدة، وتتطلَّب تحليلًا عميقًا للأسباب الجذرية. حيث القتل – المرتبِط بالنوع الاجتماعى – ظاهرةٌ عالمية مأساوية، تتجاوَز الحدودَ الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
فى مجتمعاتنا، يقع العنف والتمييز ضِدَّ المرأة فى أبشع صوَرِه، فهو ليس مجرَّد «رَد فِعل»، أو «غضْبة عارِضة لمُدمِن أو جاهل»؛ بل هو نتيجة بُنْيوية متأصِّلة فى مجتمعاتنا، وعْى جَمعيٌّ ترَاكَم وتأسَّس على مَرِّ قرون، وساهَمَت فيه الثقافة الاجتماعية بموروثاتها ومقُولاتها، والثقافة الدينية، من خلال خطابات الشيوخ وتفسيراتهم.
فالثقافة – التى تَمْنَح الرجُلَ امتيازاتٍ، وقوةَ حقوق تصِل للقدَاسة، وغير متكافئة مع حقوق المرأة؛ شريكته فى الحياة – ثقافةٌ غير عادلة. الخطابات التى تُقلِّل من شأن إرادة المرأة، وتفرض عليها الطاعة، وتجعلها ملعونةً لو أنها امتنعت لأيِّ سبَبٍ، ثقافة تتيح للرجُل إهانتها، والتحرُّش بها، وضرْبها وقتْلها؛ لاعتقاده أنه يملُكها، الثقافة التى تجعل حقوق المرأة نِصْف الرجُل فى كل شيء، فى الشهادة، والميراث، وتمْنَع عنها الولايةَ، وتحجُب القوَامةَ والوصايةَ، ثقافة لا تهَبُ لكيانها حصانةً؛ بل تُعلِى من طمَعِ الرجُل فيها، بحسبانها خُلِقت من ضلعه ولمُتعته وخِدمته، والإنجاب له، ليبقَى اسمُه فى الحياة.
فعندما يتم تربية الذكور على أنهم أصحاب سُلطة ومتحكِّمون، وأن الكرامة والشرفَ مرتبِطَان بالسيطرة على الإناث: (الابنة، والأخت، والزوجة، والأم)؛ يصبح أيُّ تحدٍ لهذه السيطرة – حتى لو كان خِلافًا يوميًّا بسيطًا – تهديدًا وجوديًّا لـ «ذكورتهم».
ويفاقم من هذا الوعى الظالم شيوعَ بيئةِ الفقْر والعوَز، فكلَّما انخفض مستوى معيشة الأفراد فى مجتمَع؛ كلَّما انعكَس هذا الفقر والجهْل والعنف على حياة المرأة، فى صُوَر كلِّية، صورة مُهينة ومدمِّرة لكيانها؛ حيث يصبح منتهَى طموح المرأة وأَهْلِها السَّتْر، والتخلُّص من مسئوليتها.
ويرتبط العنف غالبًا بـسلُوكيات الاسترجال الضارة، التى ترفُض أيَّ مظْهَر من مظاهر الضَّعْف، أو التنازُل من قِبَل الرجُل. فى هذا الإطار، يُنظَر إلى محاولة المرأة الدفاع عن رأيها، أو استقلالها، أو طلب الانفصال، على أنها «تمرُّد» يجب قمْعه، وقد يُستخدَم العُنف المُمِيت كـ «أداة أخيرة» لاستعادة السيطرة المفقودة، أو «معاقَبة» المرأة على خروجها عن الدور التقليدى، وهو ما يوافق عليه الرجال ضمنا، خوفًا من أنْ تصبِح إرادةُ المرأةِ ظاهرةً، تخلْخِل قواعدَ عروشهم.
وأحسب أن هناك مجموعةً من العوامل، التى تزيد من احتمالية لجوء الرجُل للعنف المفرِط، أوَّلُها وأهمُّها: ضَعْف الضوابط الاجتماعية والقانونية، ومراوغتها فى ضمان حقوق المرأة، فعندما تفشل الدولة والمجتمع فى توفير الحماية الكافية، والعِقاب الرَّادِع؛ يصبح العنفُ ضِد النساء أمرًا يتغاضَى عنه البعض، أو لا يُؤخَذ على محمَل الجد، حيث استمرار وجود قوانين تَمْنَح الرجُلَ امتيازاتٍ، أو تقلِّل من قيمة المرأة؛ فتساهِم فى إرساء فكرةِ تفوُّق الذكور، وحقِّهم فى السيطرة. كما أنه فى بعض السياقات، لا يَتِم التعامُل مع العُنف الأُسَرى بالجدية الكافية، مما يَمْنَح الجانيَ شعورًا بالإفلات من العقاب، فحين أخذ «عريس المنوفية» رأسَها المجزوزة لأبيها؛ ذهب وبداخله يقين ضِمْنى أنه قام بدور بطولى، الدور الذى كان على والدها أن يقوم به، فكلُّهم هذا الرجُل.
كما أننى لا أُعفِى النساءَ من تسبُّبِهِن – بطريق مباشِر أو غير مباشِر – فى وصول الأمر لهذا المنحنَى الخطير، واستحلال دمائهن، وضرْبهن، وإهانتهن بالتحرُّش، وإلحاق كل أنواع الأذَى البَدَنى والنَّفْسى بهن، وعدم إعفائى للنساء من مسئولية تَرَدِّى الأوضاع هذا يأتى على مستويات عدة: أوَّلًا تتلبَّس بعض النساء المتعلِّمات، وغير المتعلِّمات؛ البسيطات، اللاتى لم يخرُج وعْيُهن عما رسَّخَتْه الثقافة الذكوريةُ، فيتلبَّسن روح ومضامين هذه الثقافة، ويروِّجن لها؛ فتُرَبِّى ابنَها على أنه السيد، وعلى المرأة أن تطيعَه، وأيُّ خروج عن إرادته، وعدْم سَماع أوامره يُعَد جُرْمًا، تحزن له السماء؛ بَلْ على الزوجة التغنِّى برجولته الدائمة، وأنه المانِح والمانِع، الذى يُطعِم أو يجوِّع. وهى المرأة نفسها التى تربِّى ابنتها على أنه يتعيَّن عليها أن تَرْضَى بأوَّلِ فُرَص السَّتْر، وعليها أن تحتَمِل لتظل البيوت مفتوحة، وألَّا تنتفض لكرامتها؛ فكُل الرجال يَضرِبون، ويُهِينون، كما عليها أن تُعْلِيَ وتضخِّم من رجولة أخيها وأبيها، وزوجها وابنها؛ فهذا دورها الأول، وإن طغَى على شخْصها تمامًا؛ حيث أنها الكيان الذى يَهَب الجميعَ كياناتهم المنتفخة، وهو لا يُدرِك أنه حين يفعل؛ يُنْتَقَص من حقوقه وكرامته، دون أن يدرى.
المستوى الثانى، الذى لا أعفى النساءَ من مسؤوليته؛ هو صمْت السيدات المثقَّفات والقائمات على بعض المؤسَّسات، التى من شأنها الحفاظ على حقوق المرأة، وتوعيتها، وتغيير أنساقها الفكرية، وإثارة الرأى العام، وتَجْيِيشه ضِد قضايا العنف ضِد النساء، والتحرُّش بهن بكل الأشكال، هؤلاء السيدات لا يفعلن شيئًا، لا يواجِهْن هذا الموروثَ الظالِمَ، لا يفكِّكْنه فى إطار من المصارَحة؛ خوفًا على مناصِبِهن، واتهامِهن بتكدير الأمن العام، فالمَنُوط بهن التغيير، وتفكيك تلك الخطابات، واقتراح قوانين ضابِطة؛ لا يغيِّرن شيئًا؛ بل بِصَمْتهن، يكرِّسن للأوضاع الكارثية، التى تُعانِى منها المرأة. جميعنا نلْحَظ انشغالهن بالتكريمات، والأسفار، وحضور المؤتمرات، وإلقاء الكلمات، والإعداد للحِوَارات، دون أن نشهَد نزولَهن الميدانيَّ لقرية، أو منطقة، من تلك التى شَهِدَت وتشهد تلك الحوادثَ، وإعداد كتائب لتوعية النساء بحقوقهن، وتوعية الرجال أيضًا، أو إعداد وتنفيذ أعمال درامية موجَّهة للتوعية، فى مثل تلك الحالات، أو إقامة حوارات حَية مع النساء فى الريف والمُدن، وتشجيعهن على مَعرفة حقوقهن، والعَيش ضِمْن قِيَم الكرامة والعدْل.
هل قامت إحداهن بإعداد وتمويل برنامج حِوَاريٍّ يوميٍّ، متعقِّل المحتوَى، دون تطرف، يخاطِب الرأيَ العام، والوعى الجمعيَّ لتفكيك الكثير من المقولات الاجتماعية أو الدينية، التى تؤدِّى فى النهاية إلى قتْلِها.
كما ألوم أخرياتٍ يَقِفْن حائراتٍ، يقتنعن بالحقوق والحياة الكريمة، التى ينبغى أن تعيشَها المرأةُ؛ لكنَّهن ممسوحاتُ الذهن، يَرْضَخن لخطابات تكرَّرت طويلًا، وأخذَت سَمْتَ المقدَّس؛ لأنها جاءت على ألسنة رجال الدين، أو المفسِّرين، ولذا يَجْبُنَّ، ويلغين عقولَهن وكرامتَهن، متصوِّراتٍ إن الانصياع أمرٌ إلهيٌّ، لا يدركن إنه طالَما فَسَّرَه رجُل دِين؛ أصبحَ بَشريّ، التأويل ومحدودًا بتاريخيته، والبيئة التى فُسِّر فيها، ولذا يمكن إعادة تأويله، بما يحقِّق المقاصِدَ العُليا، التى هى صَوْنُ كرامة الإنسان. واستكمل معكم بعض المَحاوِر فى المقال القادم.
المصدر: المصري اليوم
