تساؤلات حول متاهة اللحظة السردية الآنية

آراء

هل تجسِّد بعض الكتابة السردية الحديثة حالَ الإنسان الذى يواجِه الموت فى حروب ونزاعات تنشب كل يوم، فوق أراضينا، وفى كثير من الدول حولنا، وتستحضر كيف تكون مشاعره، هل أبطال النصوص أفراد مشتتَّون لا يعرفون لمن ينتمون، ولماذا عليهم الاختيار من الأساس، وما الجدوى؟ هل لهذه الاختلافات العَقَدية – التى تصدِّرها كل طائفة فى نزاعاتها الدموية – المبرِّر لأن يجعل الكثيرين يفقدون حيواتهم وأهاليهم وبيوتهم وأمنهم وأوطانهم؟ هل تظل أطماع كل فِرقة هى المتحكمة فى الحياة تحت جحيم النيران والتهديد والفقد والحد الأدنى من الحياة، أو الفَناء فى حروب لم يختر الفرد العادى أن يخوضها؟ هل يبحث السرد حول هذا الجحيم، الذى تَبقى فيه كل الاختيارات غير ما تستهدف جماهير الشعوب أو تريد؟

هل يعالج فن السرد تلك الأحداث والوقائع، ويرصدها، أم يجسد ظلال معطيات السياق الثقافى العام، ويتأمل انعكاساته على حيوات البشر، وشخوص النصوص السردية، على بنيتهم النفسية والاجتماعية ومصائرهم، حيث لا الواقع ولا المتخيَّل يمكن أن يُمَثَّلا بصيغة المفرد. كما أنه لا الفردى ولا الجمعى يمكن أن يُمَثَّلا أيضا بصيغة المفرد.

هنا يتعاظم الأمر، وتظل السردية العامة وفنياتها وآلياتها تبحث عن رؤية وجوهر وجودها، ومواكبتها للحظة تاريخية فارقة، أكثر توترا من الطبيعى، ذات إيقاع لاهث يعدو نحو النهايات، أو بالأحرى، النهايات هى التى تعدو نحو البشر، وفى لهاثها تقضى أيضا على تفاصيل حياتهم، وتجعلها كما العدم، أو ربما تجسِّد البنيةُ الدالة فى النصوص حياةً متراخية تفتقد المعنى والهدف، تعبِّر عن اللاجدوى من كل ما يحيط بنا؛ ولذا يظل التراكب والتعقد السِّمَتَين الأساسيَّتَين، اللتين استُشرف وجودهما فى معظم ما يُكتب من نصوص.

لقد أوجدت السرديات الراهنة، ما بعد الحداثية، بعضَ التقنيات والآليات الفنية، التى استخدمها بعض الروائيين؛ لتجسيد هذه المآسى منوَّعة الأثر على الإنسان، وبرزت بعض السمات العامة التى أحسب أنها ستتضح على نحو أكبر:

1ــ يلجأ الروائى لتراكب تقنيات عديدة فى النَّصِّ، ومستويات متفاوتة لإيجاد بنية تواكِب وتحمِل تلك المعطيات المعقَّدة، التى تتنافى مع الإنسانية، التى عهدها البشر، وتعارفوا على قِيَمِهَا، وربما انطلق السعى إلى هذا التجريب الجمالى للبحث عن الاحتمالات الممكن حدوثها فى المستقبل، لما يحمله الواقع من غرابة وقفْز فوق التوقع.

2ــ يتجاوز السرد وصْفَ الواقع، وحركةَ الفِعل، ويتخلى عن النَّفَس الوصفى الممتد، وإسقاط التفاصيل، حيث يقدِّم عالَمًا موازيًا، يستند إلى التخييل، يقدِّم فيه الروائى تصوُّرَه لمستويات الوجود المختلفة، بعد انعكاسات الأحداث على حياة البشر.

3ــ فى تقديرى يتعجب المبدعون من الجدوى من عيش الحياة على هذا النحو العبثى؛ حيث لا وجود حقيقيا، فيتساءلون هل يستهلكنا الزمان، أم نخترقه نحن دون أن نترك مجرد ثقب به؟ لذا يكون من الطبيعى أن تظهر أنساق سردية مغايرة، من شأنها إزاحة بنية النَّصِّ التقليدى عن هيمنته. تقنيات تلهو بكل ما يجعل الخطاب السردى مخالِفًا للسائد الخطى والواقعى، مخالفا لأفق التوقع ضِمْنَ معطيات الزمان فى الحياة الطبيعية؛ فيلجأون لمونتاج كامل للتراتب الزمنى.

كما يجب الإشارة إلى أن مفهوم الزمان يغيِّر فى طريقة رؤية الحياة، ويؤثِّر فى البنية السردية الحكائية على التصور العميق للوجود الإنسانى. ولذا أتصور أن التغيير السريع للأحداث، أو «التغيير الاختلاجى الآنى للزمان» سيستوجب تغيرات سردية فى المضمون، الذى تحمله التقنيات الفنية للسرد، كما فى الـتقنيات ذاتها، فى دينامية المجتمعات وتغيُّرها.

4ــ من الطبيعى ألا يستسلم الروائيون للتراكيب اللغوية المستهلَكة، وابتكار تراكيب تعبِّر عن واقع غرائبى يفوق المتخيَّل، كما لم يعد التتابع المنطقى مألوفا فى بنية النَّصِّ اتساقا للافتقار للمنطق فى كل ما يحدث حول الروائي؛ حبكة التشظى ستحضر بقوة فى السرديات، وخلخلة بنية النَّصِّ الروائى الساكن أو الكلاسيكى.

5ـ برز فى بعض السرديات ما يشبه تصوُّرًا عن المستقبل من المنظور الجمالى والفلسفى، ولذا سعى بعض الروائيين ما بعد الحداثيين لمراجعة المكونات السردية، وطرائق توظيفها لتشكِّل منهجًا جديدًا فى مسار الحكى، يتطلَّع للمستقبل؛ فيقدِّم تصوُّرًا للحياة فى القادم، ثم تعلو طموحاته الجمالية والتخيلية؛ فيعود إلى الماضى بغية تغييره، إذ أن تغييره قد يعكس الأحداث، ويجعلها على نحْوٍ آخَرَ تمامًا، وقتها قد تفارق الحضارة العربية صدوعاتها الأساسية التى كبَّلتها حتى اليوم.

6ـ ونظرًا لكثافة المعطيات الحياتية وأحداثها، التى تتوالى، وسرعة التحولات والإيقاع اللاهث للحياة؛ نشعر فى بعض النصوص بالرغبة فى القبض على الذات، القبض على بعض القوام الضائع للشخصية الإنسانية والهُوَية؛ ليقف فى مواجهة سيادة الثقافة الواحدة، فى التمسك بالذات الوطنية، أو العَقَدِية، وأحيانا التأكيد على قدرات الإنسان الإبداعية؛ فتبرز خاصية الكتابة عن فِعْل الكتابة والإبداع.

7ـ رفْض بعض النصوص فى السرد المعاصر لتشيّؤ الإنسان واستلابه، وأيضا للسيطرة عليه عبْر أشكال الممارسات السياسية أو التكنولوجية، وواقع عزْله فى مجرد التواصل عبْر القنوات والمواقع التكنولوجية، ومحاولة الاحتفاظ بالأشكال الإنسانية الحية فى التواصل.

8ــ استمداد المرجعية الحكائية من عالم السِّحر، حيث الاستناد على تقديم روح الموروثات الشعبية المختلفة المتضمَّنة فى الواقع وأساطيره، وعوالمه الغرائبية، أو انطلاق الكتابة من تيار الفنتازيا وما يتيحه من انطلاق لخيال المبدع وقدراته على الخلْق الجديد.

9ــ تجسيد الواقعية النفسية فى طريقة بنية الشخوص، وإخراج مكامن اللاوعى الإنسانى دون تجميل، وتحليل المخزون النفسى بتراكيب لغوية لها منطقها الخاص، الذى يحيل الأشياء إلى شفرات ترتبط بحياة الأفراد النفسية، وما تعَرَّضُوا له من إزاحة وتهميش، أو جحيم الحروب.

10ــ التعبير عن القبح باستخدام تعبيرات لغوية وجُمل مستمَدة من الحياة اليومية، وقد تَرِدُ بعض المفردات الجنسية فى صورتها الشعبية، ضمن سياق من شتائم وسباب، فى تراكيب تنضح بالسخرية والمرارة.

11ــ تجسيد العادية أصبح هدفًا لتلمُّس القوة التعبيرية الكامنة فى العادية، أو فى بعض ابتذالها الشعبوى، ولذا تُستخدم اللهجات الدارجة فى السرد، وخاصة فى الحوار، كما أن هناك بعض النصوص السردية التى تُكتب كلها بالعامية.

12ــ وقد نُواجَه بالتعامل مع الكلمة واللغة كهدف فى حد ذاتها، وليس بوصفها وسيلة أو أداة للعمل الأدبى، ربما كُفرًا بكل الحكايات والأفكار، وربما يأسًا ورفضًا.

13ــ البحث عن المعانى الداخلية الكامنة والتى تحيط بالإنسان، وإضفاء الصفة البشرية على الكون وموجوداته.

14ــ التعامل مع الزمكان بمفهومه العام، فهى نصوص تنْشُد المُطلَق؛ لتبعد عن تلاحق المتغيِّر من الأحداث ذات الوتيرة شديدة السرعة.

15ــ تحضُر أيضًا النصوص التى تعتمد على جَدَلِ الفنون الأخرى عبْر تقنيات فن الكتابة الروائية، والاستفادة منها، وما تضيفه من حيوية وغنى على السرد.

وأحسب أن المشهد الثقافى العام يُقدِّم للكاتب مادة شديدة الثراء، تتيح له التنوع، والذى يضع النقد فى وضْع التأهب المرن؛ لملاحقة هذه التحولات السردية.

تجعلنا الكتابة الحيوية نشعر أننا إزاء ولادة كائن نترقبه، يوقِظ الحواس والمشاعر؛ نقترب من حقيقة الوجود، كتابة لا تبدأ من قوالب جاهزة؛ لكنها تستخدم طاقات المبدع للتعبير عن تفرد تجربته؛ كتابة تستخدم الحواس كافة، وقدرات أخرى كالحدس والخيال والرمز والكنايات لاستثارة القارئ، وتقديم تجربة الكاتب فى تجليها الأجمل.

المصدر: المصري اليوم